حلب التي غادرناها .. ذكريات تلك الليلة

المدينة العتيقة جداً.. كلّ ما فيها يشعرك بالأصالة والتاريخ والعراقة، وضآلة جغرافيا الذاكرة، وكأن الكون اختصر في تلك المساحة الممتدة من القلعة إلى السوق خلف السور القديم من باب أنطاكية إلى قنسرين والكلاسة مروراً بالمشهد وصلاح الدين وانتهاء بأطراف سيف الدولة والإذاعة.

عربي بوست
تم النشر: 2017/12/23 الساعة 03:10 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/12/23 الساعة 03:10 بتوقيت غرينتش

المدينة العتيقة جداً.. كلّ ما فيها يشعرك بالأصالة والتاريخ والعراقة، وضآلة جغرافيا الذاكرة، وكأن الكون اختصر في تلك المساحة الممتدة من القلعة إلى السوق خلف السور القديم من باب أنطاكية إلى قنسرين والكلاسة مروراً بالمشهد وصلاح الدين وانتهاء بأطراف سيف الدولة والإذاعة.

حلب.. المدينة التي أحببناها كفنجان قهوة صباحي يحكي زقزقة عصافير أزقتها، وهديل حمام مسجدها الأموي الكبير، وقد أترع بهال عربي معتق وأعدّ بطريقة إيطالية، وقدّم بفنجان ذي نقش فينيقي قديم، في شرفة عثمانية تطلّ على طريق الحرير من أوّل مدائنها.

حلب التي كنا نحلم باستعادتها كاملة.. ما زلنا نحلم بها كالأطفال، ما زالت تراودنا كحبيبة في ثوب زفافها الأحمر الذي صبغته دماؤنا، وككابوس نهرب فيه بين حاراتها من قبضة عنصر الأمن الذي يلاحق حتى أحلامنا البائسة.

هذه الليلة باردة جداً.. ثلاثة أيام ونحن هنا في الشوارع، البيوت التي تبقت واقفة لا تكفي للجميع، ننتظر الخروج من حلب، مشاعرنا ساكنة تماماً، لا شوق يتحرك الآن، ننظر الأحجار والدمار والأطلال بعين الرثاء التي تبكينا نحن، تبكي ما وصلنا إليه من فاقة الخيبة، وعظم المصاب، وعجز الموت، نعم، عاجزون نحن عن الموت الذي نريده أن ينتشلنا من عارنا القادم.

أسرت قافلة للمدنيين المهجرين منذ يومين، استشهد أربعة رجال وامرأة مع جنينها، وعاد البقية برعب كبير، لقد تعرضوا لما هو أبشع من الموت، قهر الأسر بيد عدوك واضطرارك للثقة به، فلم تعد تملك خيارات أخرى.

الناس في الباصات منذ ظهر اليوم، حلّ الليل والباصات واقفة لا تتحرك على الإطلاق، الخوف والبرد يملآن المكان، لا يقطعهما سوى بكاء الأطفال جوعاً وعطشاً، فلا طعام ولا شراب عند نقطة الخروج.

ليلة حلب هذه حالكة السواد.. لا تفاصيل لها سوى أطلال مدمرة جداً، أكوام من الحجارة، بقايا آلات الحرب، الشظايا المتناثرة حولنا، الناس المتجمعون على شكل حلقات حول نار يشعلونها من آخر مَن تبقى لهم من هذه المدينة، يحرقون أوراقهم وملابسهم وذكرياتهم ليحظوا بشيء من الدفء، وكأنّ حمل الذكريات محرم في هذا اليوم، رأيت الرجال يضعون حقائبهم كاملة في النار دون أن تفتح من أجل قليل من الدفء يحمي نساءهم وأطفالهم من الموت تحت وطأة الصقيع.

لا تستطيع النار تدفئة فراق عشقنا، خواء القلوب في اللحظات الأخيرة بعد عناق ست سنوات بارد جداً، يبدو أن العشاق الحقيقيين قد التحفوا تراب حلب ولم يقفوا على أبواب المغادرة مثلنا، نرمق قبورهم في ليلتنا الأخيرة بحسد وشوق ومشاعر خاوية لا نعرف تفسيرها.

الساعة الثالثة بعد منتصف الليل، بدأت الأرض تتجمد، البرد قارس هنا، أنا، الرجل الذي يقترب من ثلاثينيات عمره أكاد أتجمد من البرد، فقدت الإحساس بوجهي وأطرافي، أنفخ بين يدي، وأحكّهما ببنطالي لكي أشعر أن الدم ما زال يتدفق إليهما، لا أجد ما أدفئ به نفسي، أشدّ عزيمتي كلما سمعت بكاء طفل أو أنين امرأة، أحاول استحضار مشهد المعتقلين في الزنازين الباردة، أسناني تصطك ببعضها، والذكريات ترتجف.. أتجول بين الناس، داعياً الله أن ينهي هذه المأساة سريعاً.

منذ فترة طويلة لم أدخل مسجداً في حلب.. وكأن المصلى كان يدفعني بعيداً عنه.. فالصلوات لا تقام في ساعات الموت، المرّة الوحيدة التي اشتهيت فيها أن أدخل مسجداً لأقيم صلاتي الأخيرة بعد نزوحنا إلى ما وراء الجسر، قصف المسجد. وكأن الصلاة الأخيرة شيء غير ممكن الحدوث، حتى المساجد هنا كانت تكره هذا النوع من الوداع.

استلقيت على الأرض مستسلماً، حلم الموت يراودني في هذه الليلة، أحاول البكاء، لكني لا أستطيع، الدموع متجمدة تماماً كما المشاعر، وكأن البرد هو أكثر ما يناسب هذه اللحظات الموجعة حيث يتجمد كل شيء، الخواء يملأ الروح، الذكريات القاسية، مشاهد الموت والدمار، صور الأصدقاء، حنين الأمهات، وصايا الذين ترجّلوا، تخيل آخر لحظات الرحيل، والبرد، البرد الذي لا يرحم أبداً، كأنه يريد إكمال العذابات في ليلتنا الأخيرة.

حدث كل ما يمكن أن يحتمله الأحياء على هذه الأرض.. وها نحن ذا، لم يتبق لدينا ما يمكن أن نخسره سوى تلك الأطلال التي آمنا بها طويلاً والتي لا تكاد تظهر من شدة الظلام، أصبح الموت اعتيادياً جداً أمام احتمال الخسارة الكبرى.. لكننا نريد أن نخرج، ولا نعرف لماذا؟

لأوّل مرة في حياتي أسترجع الموت ورهبته دون أن أحفل بالثواب والعقاب والقيامة.. مع أنه مشهد مخيف جداً بالنسبة لي فيما مضى.. ولكن مشهد الخروج في هذا الليل مخيف أكثر، أشعر بمرارة الخذلان، ولأول مرة أطلب الموت بصدق دون أن آبَه له، وأنا على مثل اليقين بأنه لن يحدث. لقد شعرت أن الحياة مصرّة على منحي ذلك الشعور بالضعف.. وربما فرصة جديدة لاستعادة أشياء ما زلت أفقدها، لن يكون آخرها مدينتي التي أحب (ابتسمت للتفاؤل الأخير).

أودّ تذكّر كلّ شيء إلا هذه الليلة.. لكن النسيان يصرّ على التهام كلّ الأشياء الجميلة وترك هذه الليلة عالقةً في الذاكرة وكأنها القدر الذي يستطيل إلى اليوم، ولا أزال مؤمناً إيمان مَن خسروا كل شيء هناك، ولم يعد لديهم ما يهتمون لأجله سوى الذكريات، أنّ علينا أن نستعيد الفجر يوماً بعد ليلة طويلة كهذه.

الذكريات لا تصدأ ولا تموت.. إنها حقائق مؤجلة، أولئك الذين يتخلون عن ذكرياتهم، سيدركون أنهم يتخلون عن مستقبلهم، وسيبقون مجرد أمثلة.

لم أنَم يومها أبداً، طلعت الشمس لتضيء مشهد الدمار الأخير، الآلاف محشورون في حوالي كيلومتر مربع واحد، الباصات المصطفة دون حراك، الوجوه الشاحبة، بكاء الأطفال الذي تعالى من العطش، دخان الحرائق التي التهمت كل شيء من أجل التدفئة، رائحة البلاستيك والمطاط والجلود المحترقة، (الشحاوير) التي تملأ الوجوه المتحلقة حول النار، كلّ شيء على حافة الموت، كان نزعاً أخيراً، وسكرات قاسية، لقد استخرجوا من المدينة روحها، وكفنوها في دمارها المخيف.

الساعة الحادية عشرة ظهراً، تحركت الباصات لتنقلنا للجانب الآخر، من النافذة أنظر وأنا خافض الرأس إلى الشرفات التي تطل علينا بعيون باكية، وأخرى تتفرج بذهول، وثالثة ضاحكة، تسخر من هزيمتنا، ونحن نهجر من حلب تحت سطوة الموت الكبير.

رأيت عيون الأطفال من الشرفات التي مررنا بجانبها، كانوا يلوّحون لنا بأيديهم فرحين وهم لا يعرفون من نحن ولا يعرفون إلى أين نتجه، قبل أن تدخلهم الأم إلى البيت خوفاً عليهم، أو ربما لأننا لا نستحق التحية.

عندما وصلنا إلى الضفة الأخرى نزل بنا كل شيء كالصاعقة، لقد حدث فعلاً، نحن خارج حلب، صارت المدينة التي شاركتنا أجمل وأقسى لحظات حياتنا بعيدة جداً، انفجرنا بالبكاء وكأننا لم نعرف أننا سنهجر، وكأن كل شيء حدث فجأة، صرخنا بأننا نريد العودة، أرهقنا أنفسنا بالدموع المليئة بقهر صدورنا التي تغلي حقداً وكراهية، ولا عزاء.. لم يطل الأمر كثيراً، ربع ساعة فقط، بدأنا بالتفرق، ذهب بعضنا بعيداً جداً عن حلب بحيث لا يراها مرةً أخرى، وآخرون افترشوا الأرض حول أسوارها، ينظرون إليها كل يوم، ويقسمون على استعادتها.

كان تاريخاً قاسياً.. خسرنا أندلسنا مرةً أخرى، في ليلة ما، حدث هذا، لم نملك إلا الاستسلام يومها، مر عام كامل على تلك الليلة، نسي العالم المذبحة، نسيت حلب وكأنها لم تكن، ولكن أفئدة مَن كانوا فيها لا زالت تطوف كل حاراتها العتيقة، تقف في محاريبها، تستنشق هواءها على بُعد أميال من ترابها المعطر بدم الشهداء، وتحلم بالعودة كحق يستحيل على الفناء.

حلب.. ولنا فيك قهوة.. وياسمين.. ودماء.. وأكاليل غار.. وكومة من الوصايا والذكريات.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد