عندما أفسد “الجمبري” و”مستنقع السياسة” عقيدة جيوشنا العربية!

بدأت قيادات المؤسسات العسكرية في العديد من الدول العربية تنخرط أكثر فأكثر في العمل السياسي، كما هو الحال في مصر وسوريا والجزائر ولبنان وغيرها

عربي بوست
تم النشر: 2017/12/19 الساعة 02:36 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/12/19 الساعة 02:36 بتوقيت غرينتش

منذ نكسة 5 يونيو/حزيران 1967 والهزيمة الساحقة للجيوش العربية أمام الجيش الإسرائيلي في أقل من ستة أيام، ظل موضوع كفاءة وقيم وتقاليد جيوشنا العربية يلفّه الكثير من الغموض؛ لتطرح معه أكثر من علامة استفهام حول عقيدة المؤسسات العسكرية العربية وبِنيتها ومنظومة قيمها.

ورغم أن البعض من الباحثين العسكريين حاولوا دائماً ربط نكسة 1967 بالفروقات الكبيرة في نوعية التسليح، مبررين ذلك بأن الجيش الإسرائيلي كان يعتمد حينها على السلاح الغربي المتطور (خاصة الأميركي والبريطاني)، عكس الجيوش العربية الثلاثة التي كانت تعتمد على السلاح السوفييتي، فإن الأحداث والتغيرات التي شهدتها المنطقة العربية بعد ذلك أكدت وبالملموس أن مشكلة الجيوش العربية أعمق بكثير من أن تختزل فقط في نوعية التسليح، بل إن الأمر يتجاوز ذلك لعوامل مرتبطة بعقيدة وكفاءة وبنية هذه الجيوش.

ولعل الصورة بدأت تتضح شيئاً فشيئاً مع مرور السنوات والعقود، بحيث بدأت قيادات المؤسسات العسكرية في العديد من الدول العربية تنخرط أكثر فأكثر في العمل السياسي، كما هو الحال في مصر وسوريا والجزائر ولبنان وغيرها، مما أدى إلى تورط بعضها في حروب أهلية وطائفية، كما هو الحال بالنسبة للجيش اللبناني الذي تورط في حرب أهلية وطائفية طاحنة تم خلالها استنزافه بشكل شبه كامل، قبل أن يتحول إلى ميليشيات طائفية يقودها أمراء حرب مهمتهم الأولى والأخيرة تنفيذ أجندة إقليمية ودولية على الأراضي اللبنانية؛ ليعجز بعدها اتفاق الطائف بين الفرقاء اللبنانيين على إعادة الهيبة للمؤسسة العسكرية اللبنانية التي تعتبر القوة العسكرية الثانية في لبنان بعد حزب الله، الذي أصبح يشكل الرقم الصعب في المعادلة السياسية والعسكرية في لبنان والمنطقة.

وغير بعيد عن لبنان، تأثرت المؤسسة العسكرية في سوريا بالتغيرات السياسية التي شهدتها البلاد، خاصة انقلاب 1963م بقيادة حزب البعث العربي السوري، وسيطرته على مفاصل الحكم في البلاد، وما تلا ذلك من حركة تصحيحية داخل الحزب بقيادة حافظ الأسد في 1970م؛ ليلبس بعد ذلك الجيش السوري ثوب العائلة والطائفة والحزب الواحد، فكانت النتيجة الطبيعية هزيمةً أخرى في 1973م وعجزاً وفشلاً تاماً عن استرداد هضبة الجولان المحتلة؛ لتدخل هذه الجبهة هدنة طويلة الأمد مع إسرائيل، لينشغل بعدها الجيش السوري بملفات سياسية وطائفية بامتياز، والنتيجة تورطه في مستنقع الحرب الطائفية في لبنان، فكان شريكاً في مجزرة مخيم "تل زعتر" الفلسطيني بالعاصمة اللبنانية بيروت في عام 1976م، قبل أن يصبح أداة قمع للخصوم السياسيين لعائلة الأسد، وكان له الدور المحوري في قمع الحركات الاحتجاجية التي شهدتها مدينة حماة في عام 1982م؛ ليستمر على نفس المنوال ويتدخل لقمع المظاهرات السلمية التي شهدتها الثورة السورية في 2011م، وليتحول معها الجيش العربي السوري إلى ميليشيات طائفية تقاتل تحت قيادة جنرالات روس وإيرانيين في تناقض صارخ مع مبادئ العقيدة القومية العربية للجيش السوري!

وبالانتقال شرقاً وهذه المرة نحو العراق، سيتكرر نفس المشهد ولو بدرجة أقل مع سيطرة حزب البعث العربي وعائلة صدام حسين على مفاصل الدولة ومؤسساتها، ومن أهم هذه المؤسسات الجيش العراقي الذي تمت هيكلته على أسس حزبية وطائفية، قبل أن يتم الزجّ به في معارك طاحنة كان في غِنى عنها، معارك كانت إما إرضاءً لمصالح الحلفاء الاستراتيجيين من القوى العظمى كالولايات المتحدة الأميركية، كما هو حال الحرب العراقية – الإيرانية، أو تلبيةً لأطماع ونزوات صدام حسين كما هو الحال بالنسبة لاجتياح الجيش العراقي الكويت؛ لتنتهي فصول هذه القصة بانهيار سريع أمام اجتياح القوات الأميركية والبريطانية للأراضي العراقية وسقوط العاصمة بغداد في عام 2003م خلال اقل من 4 أسابيع؛ لتتبخر بعدها كلياً ألوية هذا الجيش وليصبح العراق بعد ذلك ساحة لاستعراض عضلات الميليشيات الطائفية تخضع لسيطرة قوى إقليمية مثل إيران.

ومع هبوب رياح ثورات الربيع العربي، اكتملت فصول المشهد، واتضحت معه أكثر فأكثر التناقضات العقائدية التي تعيشها المؤسسات العسكرية العربية، ولعل الحالة المصرية لخير مثال على ذلك.

قد يقول قائل: إن قصة الجيش المصري وتورطه في مستنقع الصراعات السياسية ليست وليدة اليوم، بل ترجع فصولها لأكثر من 60 سنة، وبالضبط منذ نجاح حركة الضباط الأحرار في السيطرة على مفاصل الحكم عام 1952م، وما تلا ذلك من مطالبات للجيش بالرجوع إلى ثكناته، وهو ماتم رفضه بشكل كامل؛ لتدخل بعدها المؤسسة العسكرية في مصر في صراع مباشر مع قوى سياسية وفكرية، لعل أبرزها جماعة الإخوان المسلمين.

وفي ظل هذا السياق السياسي الداخلي المتوتر، تلقّى الجيش المصري هزيمة ساحقة في نكسة 1967م؛ ليدخل بعدها بست سنوات في حرب جديدة مع إسرائيل انتهى معها الصراع العسكري المصري – الإسرائيلي بتوقيع معاهدة السلام عام 1977م في كامب ديفيد الأميركية، معاهدة قوبلت برفض شعبي واسع مع معارضة شديدة من جُل القوى السياسية، وهو ما كان سبباً غير مباشر في اغتيال الرئيس أنور السادات عام 1981م؛ ليخلفه بعدها الرئيس حسني مبارك.

ولعل فترة حكم هذا الأخير شهدت تغييراً جذرياً على مستوى العقيدة العسكرية للجيش المصري؛ حيث لم تعد تكتفي المؤسسة العسكرية بالسيطرة على مفاتيح اللعبة السياسية في البلاد، بل أصبحت رقماً صعباً في مختلف قطاعات الاقتصاد المصري، وذلك بتأسيس إمبراطورية اقتصادية عسكرية تضم العشرات من الشركات التابعة للجيش المصري؛ لتتضاعف وتيرة الهيمنة والاحتكار التام للشركات التابعة الجيش المصري لقطاعات اقتصادية حيوية بعد انقلاب 2013، وصعود عبد السيسي لسدة الحكم.

ولعل الخرجات الإعلامية الأخيرة للرئيس المصري وتدشينه لعشرات وحدات الإنتاج لعل أكثرها إثارة للجدل وحدة إنتاج "الجمبري"، والتي كشفت وبالملموس وضعية الجندي المصري، وأكدت ما تطرقت له تقارير غربية كان آخرها تقرير لموقع "ميدل إيست آي" البريطاني الذي أشار إلى أن العسكر في مصر يفرض هيمنته على ما بين 50 و60 بالمائة من الاقتصاد المصري مع تسخير الجنود للعمل مجاناً في الوحدات الإنتاجية لشركاته، ما يشكل ضربةً لمبدأ تكافؤ الفرص مع شركات القطاع الخاص.

الأكيد أن كل هذه المعطيات تكشف حجم الفجوة والخلل الذي يعرفه تسيير المؤسسات العسكرية في عالمنا العربي، والذي أدى إلى تغيير جوهري في العقائد العسكرية لهذه الجيوش؛ لينعكس كل هذا وبالملموس على التوازنات الجيوسياسية في المنطقة العربية.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد