عادت الثورة سلمية من جديد

داخل سوريا صار من الطبيعي حمل الكاميرا، وبات بديهياً نشر أي فضيحة والتقاط أي صورة وتدوين أي اعتراض أو شكوى فيما لم تكن الحياة كذلك قبلاً، وكان أبسط من ذلك يعد بين الألسنة جرماً، وفي مطلع الثورة كانت الكاميرا جريمة أمنية قد يقتل حاملها على يد أجهزة الدولة أو مؤيديها، بات في الداخل الصوت عالياً في وجه كل خبيث وفاقع، ولا بد من بزوغ جيل جديد سيقتلع التقاليد البعثية عبر الكلمة.. الثورة الآن عادت سلمية!

عربي بوست
تم النشر: 2017/12/14 الساعة 03:13 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/12/14 الساعة 03:13 بتوقيت غرينتش

أتتساءل ماذا حدث في سوريا؟ تريد أن تجيب أجنبياً سألك عن سبب الحرب في بلدك ورأيت أنكَ ضعتَ في ترهات الأسباب؟

باختصار قد رأى الشباب أنه من الممكن إزاحة الستار عن حريتهم ونيلها ببساطة. الكاتب والمفكر والعالم والمتمرد أرادوا إظهار أفكارهم يوماً دون أن يهابوا عنصر أمن أو ينتظروا الموافقة الأمنية.

مصورون ومراسلون أرادوا نقل ما يجري دون أن يتوسلوا في كل مرة من أجل أمر مهمة ممهوراً بأختام سيادة الضباط.

نجحت تجربة أصواتهم حين صدحت بالمطالبة، توسعت أصداء الصوت وكلما اعتقل فيهم أحد أو قتل امتد سلطان صوتهم أكثر، وانتشرت هذه الثورة في كل شارع.. في كل بيت وفي كل روح!

في البدء كانت الإرادة
عندما أراد الشعب أن يتحرك تجاه الثورة، لم يكن يقصد إزالة شخص من منصبه أو إطاحة مجموعة من سدة الحكم وحسب، شملت الثورة كل شيء، وطمحت بقلب كل محور ورسم خطوط جديدة لكل مسارات الحياة.

تقتضي الثورة في كل مكان أن يتغير فيها وجه البلد الثقافي وتصحيحه، تضمين الشخصيات النخبوية من كل الاختصاصات، تجريد البلاد من أحرف الزيادة المغلوطة، وإعادة كل فرد إلى مبدأ أراده، الثورة هي حتى زرع ثقافة الابتسامة بين الناس بدل التجهم والإقصاء، الثورة تشمل ترسيخ مبدأ التكافل والتضامن في كل مقام، الثورة ليست بين شعب ونظام حكم فقط، الثورة بين كل فرد وشخصيته، بين كل إنسان وضميره، بين كل فكرة ومعتنقها.

الثورة في سوريا أرادها الشعب ضد ذاته التي ربّاها نظام حكم على مر عقود، ضد عادات تراكمت في كل وسط بفعل الفوضى الفكرية التي تقصد البعثُ زرعها، فالفساد لا يمكن استئصاله ما لم يحاسب الفاسد نفسه أولاً ويثور على عاداته هذه.

وصار لنا ذلك، نفض الشعب الغبار عن ذاته في كل مجال، بجانب الموت والقصف والخوف تكشّف للكوكب بأكمله قدرات الكائن السوري الإبداعية في كل المجالات.

واستطاعت شريحة لا بأس بها بخلع رداء الفساد الذي لطالما رماه عليها نظام الحكم.

إلا أن البعض احتاجوا لسلاح يحملونه ويدافعون عمن تهدده رصاصات الجيش وعناصر الأمن، وبعد أن حملوه انقلبت البلاد إلى ممالك وإمبراطوريات لا حصر لها، كلها تحت غطاء الثورة.

إن احتاجت للمال إما نهبت البيوت والممتلكات أو تلقت دعماً من أيديولوجيات متطرفة أو تاجرت بسلاحها الذي يفترض أن يكرس للثورة.

نمت تلك الإمبراطوريات حتى بدأت ينطح بعضها بعضاً رغبة في التوسع وجني المزيد من السلطة والمال.

وتمت تصفية كل الثوريين القوميين الذين من شأنهم إيقاف هذا المد الهمجي الذي لا شك سيحيل البلاد لما هو أسوأ مما كانت عليه قبل مئات السنين.

يحسب أنه انتصر!
حين كانت الثورة ثورة، استطاع ثوارها تضييق الخناق على النظام وشارفوا على القضاء عليه، لكن بعد أن بدأ عصر النطح.. انقلب الحال إلى فيلم سينمائي دعا النظام حلفاءه ليستمتعوا معاً بمشاهدته إلى أن أخذ النطح يفضي إلى زوال الناطحين شيئاً فشيئاً.

الداعمون انسحبوا من المشهد وتركوا أذرعهم على الأرض متقمصين أيديولوجياتهم المتطرفة وما عاد في البلاد من شيء يمكنهم نهبه، وعقيدة الثورة كانت قد اختفت قبل سنين أو حملها مَن يؤمن بها معه إلى أنحاء العالم ليحكي للناس عنها، ويقول: "يتقاتل الناس في سوريا باسمي، أحدهم سرق لقمتي، والآخر قتل أخي، والثالث ينتظر ليشمت بخسارتي".

استطاع النظام خلال عصر النطح هذا انتزاع مناطق الناطحين بعد أن أدمى بعضهم بعضاً، وظنّ الناس أن الثورة بدأت تتلاشى، لنقُل إن على الأرض لم يتبق الكثيرون ممن هم ضد النظام، وباتت مسألة وقت وسيقضي حلفاء النظام على هذه الفلول في شتى نواحي البلاد، لكن الحياة ليست كما كانت عليه، الناس باتوا يفكرون بطريقة غير ما كان عليه تفكيرهم قبلاً.

هناك ما هو أعمق من سيطرة فصائل مسلحة على مناطق يميناً وشمالاً، هناك ما هو أكثر مفصلية من تغيير عَلَم أو ترسيم حدود جديدة، أو الإطاحة برئيس غير متزن وتزيده جريمته نحولاً.

فلقد تغيرت فلسفة السوريين وطريقة تفكيرهم بالمطلق، منهم من وعى صدفة بأن بإمكانه قول ما يريد، ومنهم مَن لمس معنى النضال لتحقيق فكرة، منهم مَن كشف وهم الخوف من نظام حكم قبيح وأصوات جماهيرية قطيعية تؤيده، وهناك مَن عرف أن مشروع قانون جديد سيلقى تضحية يستحقها بدلاً من طيّه في صفحات في أقبية منزل مهجور.

حتى رجالات النظام أنفسهم باتوا غير قادرين على السكوت على شيء لا يعجبهم، هناك بينهم مَن بدأ يعرف أن بإمكانه قول ما يريد، وقتما يريد، ستقتله أجهزة الأمن لا محالة، لكنه يعرف ذلك وما عاد يكترث.

الآن عادت الثورة سلمية!
انتشر الناس حول العالم، وكل بدوره بدأ يزرع فكراً جديداً كان يخاف أن يبوح به، وصل السوريون خلال أشهر في غربتهم إلى مراكز احتاج غيرهم إلى سنين طوال ليصلوا إليها.

اجتاحت أسماء السوريين كل المنظمات العالمية وأغلب الشركات العملاقة، حتى إن بعضهم بدأ بجني الجوائز العالمية التي كان يسمع عنها فقط ولربما لم يفعل، كان السوري يحلم بالدراسة في أي جامعة، لكن تجربة اللجوء أخذته نحو أرقى جامعات العالم وصار عضواً في كل محفل عالمي؛ ليخبر العالم عن نفسه وعن ثقافته.

داخل سوريا صار من الطبيعي حمل الكاميرا، وبات بديهياً نشر أي فضيحة والتقاط أي صورة وتدوين أي اعتراض أو شكوى فيما لم تكن الحياة كذلك قبلاً، وكان أبسط من ذلك يعد بين الألسنة جرماً، وفي مطلع الثورة كانت الكاميرا جريمة أمنية قد يقتل حاملها على يد أجهزة الدولة أو مؤيديها، بات في الداخل الصوت عالياً في وجه كل خبيث وفاقع، ولا بد من بزوغ جيل جديد سيقتلع التقاليد البعثية عبر الكلمة.. الثورة الآن عادت سلمية!

مستمرة..
احتاجت كل هذه التغيرات المفصلية كماً كبيراً من الدم ومن الدمار، واستغرقت الكثير من الأعصاب والسنين، لكن ثقافة البلد تحولت، وانكشف غطاء الفكر في سوريا وبات واضحاً أمام كل شخص ما يريده، وكيف يصل إليه دون أن يحسب حساب شرطي أو عنصر أمن.

لم ولن تنتهي الثورة، ما زالت في نفوس حتى مَن هم ضدها، تحرضهم على الاعتراض والتمرد ورفض كل ما هو ضد فكرهم.

وسيكبر هذا المفهوم شيئاً فشيئاً حتى تراهم يوماً يطردون روسيا من بلادهم بأيديهم، ستعم المظاهرات البلاد وسيفهم كل مؤمن بالسلاح أن الدم ما عاد يفيده في شيء، وسيفهم عنصر الأمن أن حماقة واحدة ستكلف البلاد حرباً قد تطول عقداً.

تعلّم مَن في الداخل عواقب الكره، ودفع الكثيرين ثمن حمل السلاح، بينما في الخارج تعلم السوري كيف يصبح عالمياً ويخرج من قوقعة حارته ومنطقته وطائفته.

لم تكن سوريا أفضل من الآن، الرحمة لمن فارقنا فدمه لم يروِ التراب عبثاً وخلّف نضاله بلداً أقرب إلى الحقيقة، بلداً سيحترم فيه الناس بعضها، وسيتخلصون من الكره والطائفية والمناطقية قريباً.

ولن تسقط الثورة، لقد علمتنا الصراعات في سوريا ذلك، لن تموت في نفوسنا صرخة التمرد في وجه كل ما هو خاطئ، وكل مَن هو مخطئ.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد