جيل الحرب

كان الله بعونك فعليك أن تتحلى بصبر من تركتهم في الساحات حين يسألك عن جدته وأعمامه وأبنائهم، لا تنسَ وقتها أن تخبئ دموعك إلى ما بعد نومه وافتح له التلفاز هرباً على إحدى قنوات أطفال الخيال؛ ليصفعك بطلب القناة السورية التي تسمعه أغنية "بكتب اسمك يا بلادي".

عربي بوست
تم النشر: 2017/11/21 الساعة 07:15 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/11/21 الساعة 07:15 بتوقيت غرينتش

نحن لا نختار الحرب، هي مَن تختارنا بكامل حقدها، تأتينا على طبق من موت، ونحن بكامل ذهولنا حتى الأكفان لم نجهزها لاستقبالها.

لا يهم مَن الفاعل؟ المهم أننا احترقنا جميعنا بنيرانها وعلينا دفع فاتورتها، لكن فاتورتها لم تكن مبلغاً باهظاً يدفع في بنك العمر، بل أقساطاً على مدى العمر تسدد في مصارف الروح مع فوائد ربحية من فئة الألف حسرة، لا عجب فتجارة الحرب خاسرة أساسها الربا، لكنهم حصدوا من رباها أموالاً لا تعد ولا تحصى دفعناها من دم قلبنا فكانت جيلاً كاملاً.

بعضه عاش الاغتراب في وطنه، وبعضه عاش الاغتراب خلف حدوده الضيقة، والبعض الآخر كان وقوداً لتلك الحرب ليتدفأ تجارها ليلاً في سهرات أُنسهم على أصوات الرصاص ورائحة الموت وكؤوس الدماء التي ما أعيتهم حتى بعد أن تجاوزوا الكأس العاشرة بعد الألف، وثملوا بنصرهم المزعوم فأهملوا العد.

ماتوا لأجل وطنهم وما دروا معنى الشهادة لكنهم سلكوا طريقها، لم يستوعبوا بعد معنى الوطن ربما كان مختصره ألعابهم؛ لذلك دفنهم ذووهم مع دمى طفولتهم الموؤودة، حين انتشلوهم من تحت الأنقاض متمسكين بها حتى الرمق الأخير، دفنوهم معاً كي لا تقتلهم دمى الطفولة كما قتلت أطفالهم دمى السياسة، فاستبدل الأهل زيارة الأقارب بزيارة المقابر، وتحولت سهرات السمر والضحكات إلى سهرات الدمع والمواساة، السهرات التي لا يرعاها القمر بل تحرسها الشمس المشتعلة كقلوبهم، فمن فيض دمعهم تخلّوا عن مراقبة قمر المساء والسماء لا ينظر إليها إلا حين تضيق بهم الأرض بعد خلوها من ضحكاتهم أصبحت ملجأ الدعاء ومستودع فلذات الأكباد، سهرات الظهيرة هكذا بات اسمها لانعدام الأمان، لا بأس فمثلهم يهمل الوقت وينسى الأيام.

أما الجيل الذي نجا من الموت في تلك الحرب اللعينة واحترق بلظاها وهو على قيد الحياة كيف نرمم ما انكسر فيه؟ كيف نزرع الحب في قلبه؟ وهو الذي كان شاهداً على قتال أبناء الوطن بعضهم بعضاً ويجلس بالصف الأمامي في مسرح الحرب يراقب بدهشة القهر ويرى الجار الجنب الذي ما صدق أن صافحت القذيفة جزءاً من بيتهم وتسلل الخوف إلى قلوبهم تماماً كما تسللوا خلسةً خارج مدينتهم إلى منطقة أكثر أماناً، حتى اغتنم الفرصة وباع أثاث بيتهم ليستفيد كغيره ويلعق إصبعه من السكر المحرم الذي تحلى به كثر انتقلوا إلى منطقة نائية بدائية المعيشة قاسية العيش، يفتقدون أصدقاءهم، ألعابهم، أسرتهم حتى بائع الحي الذي كان يحتمل بكل حب شقاوتهم، أما مدارسهم فهي التي افتقدتهم حين كانت على أصواتهم تطرب جدرانها واليوم لا هم ولا جدرانها.

وإن حالفهم الحظ بمدارس جديدة في قرى نزوحهم الداخلي، على الأهل أن يسجدوا سجدة شكر ويبدأوا بترغيب أبنائهم وتدريبهم على ابتلاع الحياة الجديدة كملعقة دواء مر وكأس الماء بعدها يزيل أثرها يشبه كذبتهم أو ربما أمنيتهم أنها فترة مؤقتة وعليهم الاندماج في المجتمع الجديد..

تمر الأيام ويكبر الأولاد سنةً والوضع يزداد سوءاً والبيت الذي صافحته القذيفة، احتضنته البراميل فأصبح رماداً والجار الذي باع أثاثهم باع الوطن وسافر بمالهم ليعيش على الإعانات.

هل هناك قهر أقسى من أن يبكي طفل في الثامنة من عمره ذكريات عمر بأكمله مع أهله عند المساء، وفي الصباح يشغل المذياع ليصحو دمعه ودمعهم على صوت فيروز يصدح (خدني على بلادي) وهو الذي لا يفصله عنها سوى جبلين وتلة خراب وعشرات الحواجز.

مهلاً ففي وطني أمثلة أكثر قهراً كذاك الطفل الذي رفض أن يكتب واجبه المدرسي دون أمه التي اعتاد أن تمسك قلمه وتسند قلبه فيذهب إلى قبرها ليكتب قربها علّها تصوب خطأً ما اقترفه إلا من غيابها، فيحاول إيقاظها لترى نجمةً استقرت في سماء صفحة كتابه بعد أن غاب قمر سمائه ونجومها معها، يخبرها أن معلمته تسأله عنها ويجيب مختنقاً بدموعه أنها ذهبت إلى السماء، يقترب منها يهمس عند شاهدة قبرها قائلاً: لم أصدقهم يا أمي، أعلم أنك هنا نائمة تحت التراب وتسمعينني، خاصمتني لأنني لا أنام باكراً؛ لأنني أبكي على قطعة الحلوى، لأنني أهملت دروسي مرةً.. أتعبتك حتى تركتني وحيداً! أعدك أنني لن أفعل فقط عودي.. يتعب من انتظاره العقيم، يعود إلى بقايا بيتهم الشاهد على موت أمه تحت سقفه لجرم تمسكها بجدران أشبعتها حباً ودفئاً؛ ليجد أباه منكسراً عند الباب يعد حصى خيباته، فيفترش فستان أمه ويبكي حتى يغفو وهو يظن أنها تحتضنه وتطفئ أنوار المساء لينام قطعة قلبها كما كانت تناديه.

القصص التي طرزتها يد الحرب في داخل وطني لم تكن أقل وجعاً من قصص تشردت في بقاع العالم وواجه الجيل فيها مصاعب لم تكن على مقاس طفولته ولا قلبه، لكنه حزم أمتعته مع أهله وعند آخر حدود الوطن دفن طفولةً ماتت برداً في لهيب الاغتراب واحترقت برداً في صقيع المنافي.

هناك في تلك البقع الجغرافية اللاإنسانية ترى كيف يبكي طفل على الشام كما بكت الرجال، فتدرك أننا في زمن من قساوته انحنى ظهر الألم.

تصادفُ أطفالاً بعمر الورد والحرب بلا مدارس تبتسم؛ لأنك في بلاد عربية وتكتوي بذكريات طفولتك التي ضاعت وأنت تنشد "بلاد العرب أوطاني" تنقطع حبال صوتك، تشعر بوخزة في القلب والحنجرة لتتذكر أنه يمكنك أن تدرس طفلك في أشهر مدارسها، لكن بأقساط تزوج شباب وطنك الذين استشهدوا وزفوا إلى السماء.

نعيد ترتيب أوراق بؤسنا بما يليق بالحرب ونفوسنا وننظر إلى الجيل الذي هاجر إلى أوروبا، هو نفسه من الجيل الذي أشعلت أنامله الحرب فكان هو المحترق في كل المنافي.

نتذكر صورهم حين لفظتهم البحار في المشهد الأخير، التي لم تفلح في تحريك مشاعر العالم الغافي عن مأساتهم، والذي قد يصحو من سكرته وينتفض لأجلهم يوماً أو بعض يوم على مواقع التواصل الاجتماعي، ثم يعود إلى حياته المملوءة بتفاهات الحياة، ولا وقت فيها لإنصاف موتهم بكلمة أو الحداد على أرواحهم، ولا حتى صورهم المختنقة بغازات الحقد والسارين التي عجزوا عن إثبات وجودها، وجثث أطفال الياسمين لم تكن دليلاً كافياً فأقنعوا العالم كله بأنها صور أطفال فلسطين.. لا بأس فكلاهما جيل القضية وميراثه الحرب على مر السنين.

ها قد وصل ذلك الجيل إلى أوروبا بعون الله وتجار الحرب وعلينا أن نسلم أنهم قربان اللجوء، وهدية ملوك أوروبا، فكلما كان لديك عدد أطفال أكبر ازدادت فرصتك في ربح قسيمة اللجوء.

هم يد العطف وعصا الطب والحب السحرية التي ستشفيهم من جراح الحرب، وتمسح ذاكرتهم الصغيرة من ذكرياتك البالية بلغة جديدة، ومدارس جميلة، ومسابح ترفيهية لا مادة دينية يذكر اسم الله فيها ولا مدرس قدير قد تخرجت في مدرسته وتربيت على خلقه وحلمت يوماً أن يعلم صغارك، كل ذلك بقي عند تراب من دفنوا في بلادك ودفن معهم.

وإن سألك طفلك عن أصدقاء طفولته انقل إليه عدوى الحنين ما استطعت، حدثه كثيراً عن جدتك وأغنياتها لك، وجاركم الذي كان يتضجر من أصوات لعبكم، وياسمينة البيت، وجارتكم التي ما ملّت يوماً من أن تقاطع لعبكم بعرائس الزعتر..

أخبره كل شيء حتى يتفاقم الصراع في دواخله بين الحاضر البارد والماضي الدافئ الذي لم تستطع إلا أن تقف على أطلاله كل غروب ترتب بيد حنينك حجارته، وتقلب بعين قلبك أنقاضه، فتعذب نفسك بما شئت من جمال صورته الأولى، لكن ذلك جل ما تستطيع فعله.

كان الله بعونك فعليك أن تتحلى بصبر من تركتهم في الساحات حين يسألك عن جدته وأعمامه وأبنائهم، لا تنسَ وقتها أن تخبئ دموعك إلى ما بعد نومه وافتح له التلفاز هرباً على إحدى قنوات أطفال الخيال؛ ليصفعك بطلب القناة السورية التي تسمعه أغنية "بكتب اسمك يا بلادي".

تدارك الموقف وخذه بنزهة إلى حديقة تسبّح خالقها من جمالها، كتلك اللوحات التي كنا نعلقها على جدراننا يوم كان لنا جدران، ليصفعك ويهز الأرض من تحتك بهزة رأسه الصغير قائلاً: حديقة بيتنا كانت أجمل حين زرعنا أشجار الزيتون والليمون بأيدينا معاً. فيعيدك بلحظة إلى نيسان العمر وأنت هناك على حافة أيلوله.

كيف ستزين له ربيع أوروبا وخريف بلادك معاً؟ كيف ستفصل في روحك وروحه الصورتين؟ وأنت تعيش على حلم العودة وعليك أن تدق في قلبه مسامير الاستقرار وتبشره بالربيع وروحك يغزوها الخريف!

هناك ستملأ وقتك الفارغ من أي شيء تحبه، الممتلئ بساعات الشوق في سرد حكايا الزمن الجميل، ستمارس دور الجدات في أرض لا تضم شاهدة قبرهن وقد تضم ثراك، فينام طفلك وهو يحلم بهدية من معلمه وصوت جرس المدرسة، وتغفو أنت تحلم بهدنة من قاتلك وصوت جرس العودة..
كلنا على مشارف الانتظار والجيل يدفع الثمن.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد