توفي النبي الكريم محمد، فلم يترك وراءه لا قصوراً ولا ضيعاتٍ ولا أراضي ولا مالاً، ولم يترك حسابات بنكية ممتلئة عن آخرها كما البعض، لا في بنما ولا بسويسرا؛ بل أكثر من ذلك لم يترك للمسلمين حتى خليفة من صلبه، في رسالة ربانية ذات معنى وقيمة، فاضطر المسلمون إلى التشاور لاختيار خليفة لرسول الله، وفيما يشبه الديمقراطية تداول الصحب الكريم في اسم من يستحق وليس ابنَ مَن يستحق، وفيما يشبه تلك الديمقراطية المصغرة حاز الصدّيق ثقة رجال يمثلون -إن صح التعبير- جموع وأغلبية المسلمين.
لسنوات طويلة تخلى الحاكم العربي عن دوره، فنسي مثله الأعلى وقدوته ونسي أن يستلهم روحه من عظمائنا، من الإمام العادل وقاضي الأمة الجليل عمر بن الخطاب، إلى الصدّيق الذي ما خان الأمانة يوماً، إلى ذي العفة الكبيرة والنفس الشريفة عثمان بن عفان، ودونما إغفال الشاب الذي توسّم فيه نبي الرحمة والسلام، سيدنا علي بن أبي طالب، الكثير من الخير من أمته، وبلغ من التقدير ما سمح له بالزواج بابنته المصون أمنا فاطمة.
ومن بعد هؤلاء الأربعة، رأينا العجب العجاب من الحكام، فولد لنا حاكم يحب السلطة ويعشقها ولا يود التخلي عنها، حتى لو كان على كرسي متحرك مشلولاً بالكاد ترمش عيناه، وإن كان ولا بد، فقد يتركها لقرة عينه ابنه المبجل، وهذا ينطبق على الرؤساء والملوك.
لعقود طويلة ماضية، حيث لم تكن هناك لا انتفاضات ولا ثورات، وكان هنالك مجرد شعوب منبطحة وساكتة ومغبونة تتفرج من بعيد بكل نقمة وحنق، وقتها كان الحكام العرب يستعرضون علينا في قمم عربية مبتذلة، أنواعاً وأشكالاً مختلفة من الوطنية المصطنعة، وأكذوبة الصف العربي الموحد وما كانوا يسمونه القضية الأولى، التي لم يستطيعوا حلها في ظل عقود طويلة من الاستقرار، وكنا نطالع صورهم وصفحات البذخ التي كانوا يعيشون فيها هم وعشيرتهم الأقربون.
آنذاك، كان الحاكم العربي يحتقر شعبه وينظر إليه بنظرة من التعالي والتكبر، حاشية الحاكم كلها اغتنت وراكمت الثروات، وتفشى الفساد واختلط بدم الحكام وحواشيهم المضخمة وحتى الشعوب أحياناً، كل واحد منهم كان يضع آخر اللمسات من أجل وضع ابنه حاكماً على ثروات العرب وخيراتهم.
أما بعد الربيع العربي -بكل الشتائم التي صار يتلقاها هذا الأخير- فقد سقطت اقتصاديات الدول العربية في منزلق خطير، فأصبحت الأوضاع المعيشية للشعوب من سيئ إلى أسوأ؛ نتيجة سنوات من الفرص الضائعة والغرق اللامتناهي في أوحال الفساد والاستبداد، فغابت الحرية وحظرت المنافي والسجون، ولم يعد هنالك صوت آخر غير فِرق المزمرين والمطبلين.
أما اليوم، فقد اكتشف العالم العربي -فجأة- أن هنالك شيئاً اسمه حساب وعقاب، وانطلقت في الدول شعارات محاربة الفساد، ونزلت علينا من السماء ومن تحت الأرض هيئات ولجان من كل مكان وتحت شتى أنواع العناوين، وفي كل الدول من المحيط إلى الخليج، الكل صار معنيّاً! والسبب الوحيد أن أولئك الدين كانوا يعتاشون على نعيم ورزق هاته الشعوب بدأوا يحسون بأن يد الشعوب قد تطولهم في أي لحظة بعد أن وصلت لأعناق بعضهم فشنقتهم شنقاً، وهناك من بدا يتحسس رقبته وتتوجس نفسه خيفةً مما يمكن وقوعه ويمكن في أي لحظة -وحتى ونحن في قمة التمزق والتيه- أن تقوم الشعوب مجدداً فلا يجد لنفسه ملاذاً آمناً، مهرولاً من هنا إلى هناك كالجرذان.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.