كلما هممت بالتقرب من التاريخ قليلاً، صد عني. أحاول مراراً أن أفهم التاريخ ولكن فجوة التطور تُشقيني. التاريخ الذي يقبع خلف ألف سنة من الآن، لم أطمع في معرفة التاريخ الذي كان به الإنسان الأول، ولكني راضية بهذا القريب. ولكن حتى هذا القريب يصعب عليّ فهمه ورسم بنيانه في عقلي وشكل لباس رعيته، وطعم اللحم والأرز في أطباقه ولهجة ألسنته.
قد تعودنا أن نستمع لجداتنا؛ لمعرفة تفاصيل لا تتجاوز 100 عام، كالثروة التي تتمثل في امتلاك بقرتين، أو فرحة عارمة لأن جدتي الفلاحة حصلت على نعل جديد يوم عرسها، أو نكبة ما بعدها نكبة يوم مرض الحمار الذي كان وسيلة المواصلات الوحيدة. كل هذا بالأمس القريب، كيف كان أمسهم البعيد وأنا أقرأ عن الأندلس التي لم تكن بذاك البعد!
تأتي الأندلس فتنسف جدتي وتاريخها، وتُلقي بي في ذلك الثغر الممتد من الزهراء إلى هنا، ما الذي كان ينقص الزهراء لتكون طبْق الأصل من حاضرنا؛ بل أفضل علماً وجيشاً وعمراناً وسياسة؟ لا شيء، لا شيء بالمطلق!
كيف لثغر التطور ذاك ألا يمتد إلى ديار جدتي، أن تحصل على ثوب ونعل جديدين قبل عرسها، أن تتعلم القراءة والكتابة، أن يكون في جيبها دينار بحاله. جدتي فقيرة أعلم، ولكن كان يجب لذاك التطور أن يزحف إليها، وأن يساعدني على التصديق بأن هذا التاريخ كُتب بنزاهة! الأندلس ثم جدتي ثم الحاضر.
إنه لمن الصعب حقاً أن تُخفي الدهشة وأن تبني تفاصيل الأندلس في مخيلتك، وأن يطغى الفن والأدب والازدهار كقصص خيالية من مجلد ألف ليلة وليلة، وتأتي جدتك لتتفاخر بثروتها المجسدة في بقرة دون أن تعرف كيف تقرأ أو تكتب أو تحسب.. أي لعنة تُراها قد سقطت على التاريخ الذي ينحصر بين ألف سنة واليوم؟!
الأندلس، بقدر حاجتي لتخيُّلها بقدر امتناعي عن تخيلها. من السهل أن تستذكر مدينة جميلة قديمة بقلبها مكتبة أموية عظيمة، ولكن من المؤلم أن تستذكر هيبة ميتة، وراية مدفونة، وعِلماً كان يأتيه العدو من أطراف الكوكب طالباً له، ولغة عربية كان الأجنبي يتفاخر بفهمها ونطقها.
هل العدو دائماً أذكى؟ أم هذه لعنة الذروة؟ لعنة توريث الذروة على الأغلب، فَمَن حرص واجتهد وسعى لبلوغ الذروة لا يُمكنه أن يُساوي كفة الميزان مع من ورث الذروة بلا جهد حتى لو كان من صُلب الساعي.
فإن بقيت الذروة فأهلاً ومرحباً، وإن أدبرت فتلك أقدار ولم يخسر جُهداً في بلوغها ليأسف عليه. فعندما حوصرت غرناطة -آخر مدن الأندلس- وكانت على وشك السقوط في أيدي الفرنجة، أرسل ملكها يستنجد بسلطان مصر فما كان من الأخير إلا أن توجه إلى بر الشام ومهاجمة التجار النصارى ومصادرة أموالهم وهاجم الكنائس والأديرة وأخرج منها القساوسة والرهبان وأمرهم بأن يذهبوا جميعاً لملك الفرنجة يساومونه على فك الحصار مقابل الإفراج عن هذه الأموال!
ولأنه تصرف لا يليق بذروة الأندلس، سافر القساوسة ولم يفكروا أساساً في مساومة ملكهم، وسقطت غرناطة! لأن المُدن لا تُقايض، والذروة لا تُورَث، والتاريخ لا ينسى، والحاضر لن يتعلم!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.