كركوك

لا شكَّ أن ما حصل في كردستان العراق ما بعد الاستفتاء كان حدثاً شبه كارثي، وتحولاً كشف العديد من الثغرات إلى جانب الخطط التآمرية والأسرار، كما يشكل دافعاً قوياً من أجل المراجعة النقدية، وإعادة النظر في الكثير من القضايا والأمور من جانب جميع المعنيين والمشاركين والفاعلين بالداخل الكردستاني والعراقي والخارج

عربي بوست
تم النشر: 2017/11/16 الساعة 02:49 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/11/16 الساعة 02:49 بتوقيت غرينتش

"الاستيلاء على كركوك تم بقيادة إيران وبعلم واشنطن ولندن" مسعود بارزاني – مجلة نيوزويك.

لست في معرض سرد تاريخ هذه المدينة العريقة وما استقبلت من غزوات ومحاولات تغيير تركيبتها القومية والثقافية والاجتماعية وما شاهدت منذ غابر العصور من موجات بشرية ومن جحافل مقاتلة من سائر الملل والأقوام من آسيا ووراء البحار، خلال مراحل ما قبل الإمبراطورية العثمانية وما بعدها وإبان أفولها عملت قتلاً وخراباً في المدينة التي تقع على ممر استراتيجي بين الغرب والشمال نحو بغداد والجنوب، فهو من اختصاص المؤرخين.

ولكن لا بد من الإشارة ولو سريعاً إلى ما حصل في العقود الأخيرة وما عاصره جيلنا عندما تم استهداف هذه المدينة التي اكتشفت فيها بريطانيا الكبرى النفط والغاز من جانب نظام البعث في عهد الديكتاتورية المقبورة، بغية تبديل تركيبتها ومعالمها الأصيلة، وخصوصاً طابعها الكردي الغالب والتركماني بدرجة تالية انطلاقاً من أيديولوجيا عنصرية باسم العروبة، وصلت إلى درجة فرض استمارة "تغيير القومية" قسراً وفرض التهجير، خاصة أننا تابعنا انتهاج نفس السلوك الشوفيني في سوريا ضد الكرد، ومن جانب نظام البعث (الحرمان من حق المواطنة والتهجير بغرض تغيير التركيبة القومية)، والمعروف بمخطط الحزام العربي.

في مواجهة الحقوق الكردية المشروعة بتقرير المصير، ومحاولات تعريب المناطق ذات الغالبية الكردية وقضم الأراضي بكافة السبل الاحتيالية والقسرية، وبالتماشي مع ذلك زرعت الأوساط الشوفينية العراقية في الأذهان أن طموحات الكرد في الحرية وتقرير المصير لن تتحقق بدون كركوك، وانطلاقاً من تلك الفرضية اصطف بعض العرب السّنّة من أصحاب النزعة القومية العنصرية مع بعض التركمان الموالين لتركيا وبعض الشيعة من الموالين لإيران، وبتدخل مباشر من ميليشيا الحرس الثوري الإيراني، وأعلنوا الحرب غير المقدسة على الكرد وحلفائهم من المكونات الأخرى بعد الاستفتاء مباشرة باسم (القوات الاتحادية وميليشيا الحشد الشعبي)، وتحت شعار الحفاظ على وحدة العراق، والهدف يتجاوز بطبيعة الحال كركوك إلى تصفية جميع إنجازات شعب كردستان العراق التي تحققت بفضل تضحيات أكثر من قرن من الزمان.

فرضية "استحالة استقلال كردستان العراق بدون كركوك" لا تستند إلى الحقيقة والواقع، فأي شعب إذا أراد تقرير مصيره بنفسه يمكن أن يمارسه على قطعة من الأرض أولاً، ثم يستعيد ما أُخذ منه بالقوة عندما تتوفر الشروط والأسباب، وإذا كانت كركوك غنية بالنفط فإن معظم أراضي كردستان تضم النفط والغاز بكميات عالية، وعندما احتلت (القوات المعادية المشتركة) المدينة بعد انسحاب البيشمركة حقناً للدماء ولأسباب تكتيكية فرضتها صراعات البيت الكردستاني بدفع خارجي وبأدوات من عائلات عريقة بالخيانة الوطنية، وبعد أن خفتت أصوات المدافع قليلاً تبين للعربي السني وللتركماني المرتبط بتركيا وحتى للشيعي العربي وللحكومة التركية وللأنظمة العربية التي هللت أو سكتت أمام اجتياح كركوك، وكذلك أميركا والدول الأوروبية التي نأت بنفسها مطأطئة الرؤوس وبعضها من أجل المصالح النفطية، أن كردستان ما زالت شامخة وشعبها يتمسك أكثر بنتائج استفتاء تقرير المصير إن لم يكن اليوم فغداً أو بعد أعوام وعقود، وكركوك لن تسكت على الضيم، والمنتصر هو نظام ولي الفقيه في معاركه المنتشرة في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وأن الجنرال قاسم سليماني سجل أرقاماً قياسية وأشواطاً في المرمى العربي في أوج المواجهة المنتظرة إقليمياً ودولياً، بعد أن تم تضليل الرأي العام العربي، وبمساهمة الإعلام العربي الرسمي بالخطر الكردي المزعوم.

انسوا كركوك وخذوا خمسة مليارات دولار

المسألة التي نحن بصددها الآن لها خلفية تاريخية قديمة، فقبل أعوام علمت من مصدر موثوق أنه وخلال إحدى الزيارات ما قبل الأخيرة للرئيس مسعود بارزاني إلى المملكة العربية السعودية، وكانت في سنوات حكم الملك فهد بن عبد العزيز، ولدى انتظاره في الفندق لمقابلة الملك زاره أولاً ولي العهد الأمير عبد الله الذي أصبح ملكاً فيما بعد، ومن خلال الحديث، أوضح الأمير "أنهم لن يوافقوا على تقسيم الأرض العربية في العراق مهما كلف الأمر، ولن يسمحوا بدولة كردية هناك، وكركوك ستبقى مدينة عربية، وعليكم نسيانها، ونحن على استعداد لمنحكم خمسة مليارات دولار وعلى الفور إن قبلتم ذلك"، وكما فهمت فإن السيد بارزاني ظل متماسكاً رغم المفاجأة القاسية ولم يرد على الأمير، كما أن قدوم موكب الملك فهد أنقذ الموقف؛ حيث كان ودوداً ومتفهماً لمعاناة الكرد، ومتعاطفاً مع حقوقهم، بعكس الأمير الذي وكأنه كان متأثراً بفكر البعث الممزوج بالنزعة العروبية البدوية.

ومن غير المستبعد أن يكون الممسكون بخيوط الحكم بالمملكة ما قبل حركة ولي العهد الأخيرة من بقايا السائرين على سياسات السلف تجاه العراق عموماً، والكرد خصوصاً وكان ذلك بادياً من موقف المملكة السلبي تجاه الحقوق الكردية والحملة العسكرية على كردستان، ومن شطط الإعلام الخليجي عامة والتابع للسعودية، خصوصاً قناتَي العربية والحدث، وبعض الصحف اليومية ذات العلاقة؛ حيث يتردد أن المسؤول عنهما قيد التحقيق والمساءلة لأسباب مالية، وكلنا أمل أن تعود تلك القنوات إلى الالتزام بالاستقامة والحيادية على الأقل بما يخص العراق وسوريا والقضية الكردية.

لا شكَّ أن ما حصل في كردستان العراق ما بعد الاستفتاء كان حدثاً شبه كارثي، وتحولاً كشف العديد من الثغرات إلى جانب الخطط التآمرية والأسرار، كما يشكل دافعاً قوياً من أجل المراجعة النقدية، وإعادة النظر في الكثير من القضايا والأمور من جانب جميع المعنيين والمشاركين والفاعلين بالداخل الكردستاني والعراقي والخارج، وخصوصاً التحالف الدولي بقيادة أميركا الذي يراهن حسب نصائح "ماكغفرن" على "العبادي" لتخليص العراق من نفوذ إيران، في حين أنه يوسع ذلك النفوذ بكل قواه، وأنه من نفس حزب المالكي رجل إيران الدائم رغم التنافس بينهما حول من يفُز ومَن يرضي قاسم سليماني أكثر من الآخر، وفي مقدمة من يمارس المراجعة، كما أرى القيادة السياسية في الحركة الكردستانية والأحزاب والفعاليات المجتمعية، وهي مناسبة للتدقيق في مختلف الجوانب التنظيمية والسياسية والعسكرية والأمنية والسيستم الحزبي عامة، بالإضافة إلى ملف العلاقات القومية.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد