العراق.. وأزمات الهوية

إن ثقافات كثيرة عاصرت رهان الاضطلاع بازدواجية هوياتية، لتجنيب النفس والآخر، هذا الصِدام لنجدهم مكلومين عاجزين، ومن ثم فمن شأن هذه الازدواجية، أن تُشعرنا بمآلاتها، من هذه المأساة، والتفتق والتشقق، إن ذرائع التعدد آل إلى إبراز نوعية من الثقافات المستلبة والبديلة، في مجتمع واحد؛ ليعيش كل في بوتقته.

عربي بوست
تم النشر: 2017/11/15 الساعة 01:51 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/11/15 الساعة 01:51 بتوقيت غرينتش

إنها مسألة مُركبة ومِفصلية، تتصل بمسائل أخرى متعالقة، إن المتابع للحالة العراقية، يُدرك تماماً أن أزمة هوية هي تلك التي تُحكِم على مشهد اليوم، إن الهوية المتعددة أو تعدد الهويات لشعب واحد لا غاية لها سوى تهشيم وإضعاف وتشويه الهوية المُؤسِسة والمركزية، وإفراغها من كل معانيها، ونوابضها المُوحِدة، ومن ثم كل المؤثرات المتصلة بهذه الهوية، وكل التأثيرات الحيوية التي تُحدثها.

إن تعدد الهويات داخل مجتمع واحد يعني فشلَ الهوية الرتقية، في استيعاب الهويات الأخرى، التي لن تكون إلا هويات مُنافسة ومُثبطة داخل ذات المجتمع الذي يدعو للتوافق والانسجام، لا الاختلاف والانقسام.

إن الهوية وتكويناتها في عراق اليوم، لا تَنطلق من مرجعيات ونقط ارتكاز واضحة، ولا تتمتع بالسيرورة الناتجة من الاستحقاقات الأصيلة والمُضافة، والتي تُشكل أصلاً في الهوية، وقاعدة ديناميكية للتصالح مع التاريخ والعمل على العيش المشترك.

هويتنا هي هوية مُمتحنة ومُنهكة، هوية تعاني النقص، وعدم اكتمال التكوين؛ لتكون مُهددة بالانقسام المستمر، لهويات مُنافِسة تسعى لحروب وجودية وتمددية، لفرض مفهومها على الآخر، فنحن أمام كانتونات طائفية وإثنية، لا تفهم لغة سوى الهيمنة والهيجمونيا السافرة.

إن الهويات الفرعية في العراق، قوية بفعل البيئة، التي ما فَتئت تُغذي نعرات الطائفة والعشيرة (بفعل اللوبيات) التي تستفيد من صفوف مفروشة مفكّكة، لتظهر هويات متنامية، تميل للانطواء على الذات، وهذه عناصر سلبية ساهمت في ترسيخ التمزق.

ليكون العراق بلداً للهويات المظلومة، والقتيلة، إن حكومات مُتعاقبة أسهمت في تهميش الآخر، وإنزال أنواع العذابات عليه، وتبخيس ثقافته ولغته وفنونه وإنتاجاته، فلم يكن للاحتواء الوطني معنى، عندما كانت الهويات التي تُسيطر تستنقص الآخر وتهين ثقافته، إننا أمام تاريخ يَستعر بالتذيل والورائية والطرد ساهم بصناعة شيء كثير من واقعنا الذي نُعاصر.

إن ثقافات كثيرة عاصرت رهان الاضطلاع بازدواجية هوياتية، لتجنيب النفس والآخر، هذا الصِدام لنجدهم مكلومين عاجزين، ومن ثم فمن شأن هذه الازدواجية، أن تُشعرنا بمآلاتها، من هذه المأساة، والتفتق والتشقق، إن ذرائع التعدد آل إلى إبراز نوعية من الثقافات المستلبة والبديلة، في مجتمع واحد؛ ليعيش كل في بوتقته.

إن جزءاً حاسماً من هذا الرهان، هو اعتماد تجربة لا تعتمد هوية جامعة، بل هويات متنافرة تزدري الآخر، وتحاول قضمه وابتلاعه، مهما كانت تُظهر المدح والحميمية.

مَن يرى أن تكدس الهويات داخل الهوية الوطنية، سبيل يمكنه أن يُوصل إليّ حلولاً، بل إن هذا التكدس من شأنه أن يُعبر بتجلٍّ ووضوح عن عجز حقيقي في الانتماء واختيار المواطنة، إن مقاومة التخندق، على حساب الآخر وفهم التنوع والتعددية، من شأنه أن يخلق ثقافة الآخر لدينا، الصدر والرؤية لن يؤدي إلا لمزيد من التقوقع والعُزلة والعنف العكسي، في اتجاه آُحادي البعد، ما يعني إعراضاً عن انغراس هوية الوطن، والانخراط في تجربة ذاتية محدودة، والمزيد من الانقسام وتغيّب الهوية المشتركة، والانجرار وراء مزاعم "قضية الثقافة" التي يشعرون تجاهها بمشاعر غامضة، أضرت الهوية الوطنية تلك النقائص والاختلالات.

في نهاية النفق انفراجة ممكنة، لكن أي خسارات مهولة هي تلك التي نساق نحوها بلا أدنى تورع!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد