رفعت جفوني عن مقلتي وجدت نفسي في ظلام حالك، لا أعرف مَن وأين أنا؟
بدأت بتلمّس الأرض وصولاً إلى الجدران، أتتبع ذاتي وأسمع شهقات تنفسي وأتحسس بأناملي عن المراد، كنت أريد أن أصل إلى مرآة لكي أعرف مَن أنا.
كان صدى أفكاري يصطدم بجدران جمجمتي ويكرر من أنا؟
أجبت: أعتقد أنني ابن نوح عليه السلام، أنا ابن النبي نوح الابن العاصي الذي لم يؤمن برب أبيه، أنا الذي هربت إلى أعالي الجبال لأهرب من قضاء رب نوح، رغم أن نوحاً أبي دعاني إلى سفينته لعلي أنجو من الطوفان؛ لكنني لم أعصِ أبي فقط بل عصيت نوحاً ورب نوح، كان أبي يعرف مصلحتي، لكنني لم أعرف، مصلحة نفسي وهلكت غرقاً بالذنوب والمعاصي.
كلا ربما أنا من إخوة يوسف -عليه السلام- إنني شاركت برمي أخي يوسف في الجب، نعم اقترفت هذا الجرم، نعم كنت أكنّ بغضاً ليوسف، ليس أنا وحدي، بل أنا وسائر إخوتي، جميعنا مذنبون ومشتركون بنفس الجرم، نعم كلنا كذبنا على أبينا يعقوب النبي، حتى يعقوب -عليه السلام- كان يعرف أننا نكذب، نعم نحن أولاد النبي كذبنا.
هل أنا فرعون الذي طغى وقتل الذكور؟ أنا الذي ادعيت الألوهية وقد مدّ الله لي مداً وما زادني ذلك إلا كفراً وتجبراً وإجحافاً، قتلت زوجتي وبنيت برجاً كبيراً لأصل إلى السماء لكنه انهار سريعاً فوق البانين، زعمت أنني أُحيي الموتى، نعم عجزت وكانت نهايتي غرقاً في بحر الظلمات، لم ينفعني إيماني قبل أن أموت بلحظات، جعلني الله عبرة للعالمين.
ما زلت أبحث من أنا؟
لعلني أنا بلال الحبشي هل أنا عبد لأمية؟ تباً لك يا أمية كم كنت مجحفاً بحقي وأذقتني من طعم العبودية! كم عيّرتني بلوني! قيدتَ حريتي، وضعتني على رمال الصحراء الملتهبة، وضعت الصخرة على جسدي، كبّلتني وجعلت أطفال مكة ترجمني بحجارتها، لن أنسى ما فعلته بي يا أُمية.
"لا نجوت إن نجا".. كلا..
أنا الحصار الذي حاصر أبناء مكة الذين آمنوا مع الرسول، نعم حاصرتهم ثلاث سنوات، حرمتهم من الطعام والشراب، جعلتهم يأكلون أوراق الأشجار، أنا الحصار الذي سمعت صوت أجوافهم وهي خالية، سمعت أطفالهم يبكون من الجوع، إنني شددت عليهم من دون أن أفرق بين كبير وصغير، أشعرتهم باليأس والجوع والضعف، نعم قد قسوت عليهم كثيراً.
يبدو أنني أبو لهب، أنا أبو لهب الذي وقف في وجه النبي وحاربه وشارك في حصاره وكنت أتباهى بالمال، أنا الذي كان يردد: تبّاً لك يا محمد، حتى نزلت سورة بي، تقول: "تبت يدا أبي لهب وتب"…. كلا كلا وألف كلا، أنا لست أبا لهب، إنني متأكد أنني لست هو.
تفكرت قليلاً وتذكرت أنّ..
– فرعون الطاغي قد أماته الله غرقاً وجعله عبرة للعالمين، وفرج عن سيدنا موسى -عليه السلام- ومن معه وكان نصراً مبيناً.
– وابن سيدنا نوح الابن العاصي، لطالما كان نوح يدعو لابنه ولكنه مات غرقاً بسبب عصيانه، وبعد حين فرج الله عن نوح وفلكه.
– تذكرت إخوة يوسف -عليه السلام- الذين ظلموا أخاهم النبي، ولكنهم تابوا وعفا الله عنهم أجمعين.
– وبلال ابن رباح -رضي الله عنه- الذي ذاق الويلات والظلم ونصره الله وجعله لواء بين المؤمنين.
– والحصار الذي لم يرحم أحداً فسخّر الله حشرة لتأكل وثيقة الحصار والمقاطعة.
– أما أبو لهب رغم كفره وطغيانه، فقد فرح بولادة الرسول -عليه الصلاة والسلام- وأعتق جارية يوم وُلد النبي، فحرم الله على جسده النار يوم الإثنين؛ لأنه فرح بولادة النبي.
نعم رغم تنوع تلك النوائب والمحن وصعوبتها وتأخر النصر، فإن الله يأبى أن ينصر المسلمين ويعزهم.
ها قد أبلج الفجر.. وإلى الآن لم أعرف مَن أنا، إنني لم أعثر على المرآة؛ لكي أعرف مَن أنا، وجدت بِركة مياه وكانت قدماي تتسابقان إليها، كان قلبي يطرق بقوة فائقة، وعيناي متعطشتين لرؤيتي، ونفسي متشوقة لكي تعرف من هي، دنوت منها أكثر، رأيتها كالسراب تبتعد، وما زالت الأفكار تزدحم في مفكرتي، وصلت إليها أخيراً.. لم أرَ وجهي، انفجر غضبي واصطكت أسناني مع بعضها، تمحصت أكثر فوجدت جبلاً أشم تحيطه مدينة عريقة فأدركت أنها دمشق وقاسيون.
لم أعرف مَن أنا، ولكن وجدتهم يطلقون عليَّ برجوازياً إقطاعياً إرهابياً متشدداً متطرفاً مخرباً مندساً متآمراً عميلاً خائناً فاسقاً، وأسماء لم أدركها من قبل، فعرفت أنني ذلك السوري الذي طالب يوماً بأن يعيش حراً.
إنني أنا السوري، أعلم أننا سننتصر في يوم ما حتى وإن لم نكن أحياء.
التوقيع: سوري حُر
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.