رغم ما يحكم العلاقة التركية من روابط وثيقة مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية وإسرائيل وعضويتها في حلف الناتو والشراكة الاستراتيجية واحتضانها لقاعدة انجرليك اليد الضاربة للناتو في الشرق الأوسط، ورغم قيامها بضبط بوصلتها مع روسيا وإيران وعدد من الدول العربية، ما زال الحذر التركي قلقاً بسبب التطورات المتسارعة، وحجم ما قد تحرزه من مكتسبات من نتاج تلك الروابط والعلاقات ومن جراء قدرتها على استعمال الأوراق المتشعبة التي تديرها بحساسية وحذر كمن يضع رِجله فوق لغم.
لكن يظلّ "الاقتصاد" بين الدول هو محور هذه العلاقات، والتركيز عليه يحدد الطبيعة المستقبلية بينها، فمن خلال استعراض نشأة الدولة التركية التي قامت على أساس الاتفاقات الدولية، ومنها معاهدة "لوزان 1923" القاضية بمصادرة دول الحلف أموال الدولة العثمانية كتعويضات حرب وتحميلها ديوناً يستوجب دفعها تباعاً جعل الدولة التركية الحديثة تابعة اقتصادياً لتلك الدول ومدانة لها، ولأن الهاجس الأوروبي من أن تنهض هذه الدولة مرة أخرى مذ حكم العثمانيون كامل أوروبا الشرقية ودول الوطن العربي وبقاعاً من إفريقيا ظلّ قائماً، أحكموا عليها الطوق باتفاقية الـ 99 عاماً وحتى لا تفلت – فرض اتفاق لوزان السري غير المعلن شرط عدم تنقيب تركيا عن النفط والغاز أو المصادر والثروات الباطنية والمعدنية في أراضيها لمدة 99 عاماً، وهو ما التزمت به تركيا إلى حينه.
عليه في فترات زمنية متقاربة شهد الاقتصاد التركي ركوداً وانحداراً حضيضياً، وعلى الرغم من أن جارتها سوريا لم تكن منعّمة بالرخاء مقارنة بتقبل المواطن التركي من قرينه السوري هدية قيمتها لا تتعدى كيلو من الشاي أو من السكر الناعم، تعكس حقيقة الانهيار الاقتصادي التركي في الثمانينات.
بيد أنّ سياسة البدائل المرنة التي انتهجتها في العقدين الأخيرين من فتح باب الاستثمار وتدفق رؤوس الأموال الأجنبية إليها واتفاقات فتح الأسواق الأوروبية أمام منتجاتها، شهد الاقتصاد التركي نهوضاً أسطورياً غير متوقع اتّسم بالنمو السريع لتتبوأ به تركيا بزمن قياسي المرتبة الـ16 عالمياً لعام 2016 وتصبح إحدى دول "مجموعة الـ20" الأقوى اقتصادياً في العالم بدون ثروات باطنية وهي التي تستورد 90% من احتياجاتها النفطية.
والاقتصاد، يفهمه الاقتصاديون جيداً، هو تطبيق مجموعة من النظم والمبادئ والنظريات والاستفادة منها مع المصادر المختلفة والتناظر في عوامل الاستهلاك والإنتاج ويقاس ذلك بالناتج المحلي الإجمالي (GDP) لكل دولة، وتركيا قد طبقت هذه المفاهيم جيداً.
سياسة المصالح:
خلال الأزمة السورية والخيارات المكلفة -التي كان من المتوقع أن تؤثر سلباً- تمكنت تركيا من إيفاء جميع ديونها وهو ما رفع سقف الهاجس الأمريكي والأوروبي خاصة في غلو الحديث عن إمبراطورية "العثمانيين الجدد" وتمدد قواعدها في "بعشيقة" في العراق، و"مقديشو" في الصومال و"الباب وجرابلس" في سوريا، ومؤخراً في "قطر" وعلاقاتها مع الدول الناطقة بالتركية وسيطرتها على قبرص التركية.
حسب آراء عدد من المحللين تعاملت تركيا ببراغماتية عالية ولم تلعب دوراً إيجابياً في الأزمة السورية، وإن استقبالها اللاجئين السوريين على أراضيها واحتضانها لما يسمى "المعارضة السورية" لا يقاس بحجم التسهيلات التي قدمتها للمتطرفين الإسلاميين في الدخول إلى سوريا.
هذه المعايير قد تعارضت مع المنظور الأميركي، خاصة أنها قد أفشلت مراراً محاولات أميركية لتدريب عناصر من أفراد المعارضة المسلحة لمواجهة التطرف الإسلامي "داعش" التي احتلت محافظات عراقية وسورية وأقامت دولتها المزعومة.
بعد فشل الانقلاب العسكري التركي في يوليو/تموز 2016 على حكومة أردوغان وتورط جهات أميركية وغربية وعربية فيه، تسربت معلومات عن نية حلف الناتو نقل قاعدة انجرليك، وبحث استراتيجيات بديلة للضغط على تركيا، مع أن الأخيرة حصلت على تعهدات أميركية وغربية للتعويض بالمقابل عن المحاولة الانقلابية كضمانات لأمنها القومي.. لكن الأميركان بذات الوقت عززوا تواصلهم مع وحدات حماية الشعب الكردية في الشمال السوري ووطدوا معهم العلاقات وأمدوهم بالسلاح والعتاد والخبرات والخطط لمحاربة داعش – وهي رسالة تحذيرية فهمت تركيا نصها جيداً- فحواها أن الأوراق التي بيدها يمكن الانقلاب عليها مقارنة بالورقة التي تؤرقها، مبادِرةً بزرع قواعد عسكرية وتأهيل مطارات في الرميلان وعين العرب (كوباني) وتوزيع مستشاريها على امتداد الشمال السوري.. تلك التي أفشت عن مواقعها تركيا لاحقاً لوسائل الإعلام، وقيام تركيا ضمن منظومة درع الفرات -وهي إحدى أوراقها- بتعزيز تواجدها وقدراتها في الأراضي السورية وأعلنت عن انتهاء مهامها في المنطقة بعد أشهر من انطلاقها، وهي قيد تجهيز عملية أخرى في الربع الأخير من (2017) قد تفاجئ المجتمع الدولي بها.
التساؤل القائم: هل هناك فرص أخرى أمام تركيا للمناورة؟
الرئيس التركي الذي زار واشنطن في مايو/أيار 2017 وتحاور مع حكومة ترامب قد حصل على طمأنة غير مريحة حول علاقة الولايات المتحدة بقوات سوريا الديمقراطية الذي اعتبرته أميركا أمراً تكتيكياً فقط، غير أن مسألة قيام كيان كردي شمال سوريا يشكل خطراً وجودياً على الأمن القومي حسب الرأي التركي، وأن تشديد تركيا على هذه المسألة أدخل العلاقات الأميركية – التركية نفقاً ضيقاً يصعب التنبؤ بمخارجه.
اتفاق موازٍ:
المؤشرات تفيد بأن أميركا ماضية في عملية الضغط اللامحدود على تركيا حتى ترضخ إلى توقيع اتفاق مماثل لذاك الذي وقعته قبل 99 عاماً بعدم التنقيب في أراضيها، مع العلم أن المهندسين الألمان قد اكتشفوا وحددوا مواقع النفط فيها عام 1901م، ولكن هذه المرة الاتفاق هو للتنقيب بمطلع عام 2022م في أراضي جنوب شرق تركيا الغنية بالنفط والغاز مقابل حصول أميركا على حصة الأسد من هذا الامتياز، وهي قدرة تتحكم من خلالها بمصادر الطاقة ولنفس المدة الزمنية، خاصة أن البدائل الروسية ومعسكر التوازنات بدأ يلوح في الأفق، مقابل إجهاض المشروع الكردي.. وهي سياسة اتبعتها أميركا مع دول الخليج ذات الإنتاج النفطي العالي مقابل حمايتها من الأخطار المحدقة تلك التي يتم خلقها ثم حلها، ومؤخراً دفعت دول الخليج وعلى رأسها السعودية مليارات الدولارات لتجنب وقوعها في كارثة محتملة، وعلى تركيا الدفع في نظير تجنيبها الأخطار المحدقة أيضاً.
اللعبة الأميركية تنطلي على جميع الأطراف، لكن يبقى "الاقتصاد" المحور الرئيسي الذي تلعب عليه (أعطني نفطاً أعطك أمناً) محاكاة لمقولة (أعطني خبزاً أعطك فناً)! فمن لا يعطي لا يأخذ، والأيام دول!
دمتم بخير.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.