المهجّرون قسراً برعاية صَمْتنا صابرون كما الأنبياء

فحتى الجنازة أصبحت ترفاً في هذا الزمن! ترى كم حلماً مدفوناً بين تجاعيد جبينك يا جدتي الصابرة؟! وتلك الأم الشاحبة الوجه التي ترضع صغيرها ترى هل أبقى الحصار المفروض منذ سنين حول مدينتها على القليل من الحليب في ثدييها أم أنها تكذب على الصغير لكي تسكته بثدي فارغ؟! لكن لماذا لا يبكي؟! أتراه اعتاد الجوع أم أن كل تلك الصواريخ التي سقطت في مدينته أخرسته؟! ترى أي مستقبل ينتظرك يا صغيري؟!

عربي بوست
تم النشر: 2017/08/04 الساعة 05:12 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/08/04 الساعة 05:12 بتوقيت غرينتش

"والله إنكِ لخيرُ أرض الله، وأحب أرض الله إليّ ولولا أني أُخْرجت منك ما خرجت" قالها رسول الله والحزن يملأ قلبه مودعاً أرضه وبيته ومربى صباه، حينما فارق مكة المكرمة مهاجراً بنفسه ودينه إلى المدينة من الأذى الذي لاقاه فيها، فأتاه الردّ الرباني: "وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ"، فأي حزن يعادل ذلك الحزن؟ وأيّ بشارة بثقل تلك البشارة؟ فالمهاجر كان نبي الله والمبشّر رب الأرض والسماء، فيا أهلنا المهجرون في شتى أصقاع الأرض، لا تخافوا ولا تحزنوا، فإن كان الله معكم فمَن عليكم؟ أفيضرّكم عمل من قدِر عليكم وأخرجكم من دياركم ظلماً وزوراً وقهراً إذا كان القادر المُقدِّر في صفكم؟ فإن كان العالم قد باعكم ورعى صفقات تهجيركم وطرب لصراخ أطفالكم وأنين شيوخكم فمن فوقكم العليم الذي لا يبيعكم ولا ينساكم، مهما خان الخائنون وتآمر المتآمرون،

لا تنتظروا شيئاً منا فنحن أضعف من أن ننصركم، نحن الذين خنّاكم وخذلناكم مرّة تلو الأخرى، أضحى همّنا الوحيد أن نجلس ونراقب أحوالكم في شاشات التلفزة؛ لِنظهر بعضاً من الأسى ونحن نسمع بكاء أطفالكم ونراقب القهر في عيون رجالكم والعجز في عيون شيوخكم والحزن والمرارة في عيون نسائكم، ونتساءل بدهشة: ترى ما الذي استطعتم أن تجلبوه معكم في تلك الحقائب الصغيرة التي تحملوها؟! ترى هل اتّسعت لأحلام أطفالكم ولذكريات الشباب والصبا؟! وهل اتّسعت لقبور مَن واريتموه في الثرى من أحبابكم؟! ترى هل اتّسعت لياسمينة الدار العتيقة وأرجوحة الأولاد وكم متراً من أرضكم استطعتم أن تخبئوها في تلك الحقائب وكم شجرة؟!

ولكن.. حتى لو اتّسعت الحقائب لكل ذلك فهل تستطيع باصات التهجير أن تحملها أم عساها ثقلت بحمل حلم واحد من أحلام الأطفال الراكبين؟! وهل يدري أولئك الأطفال إلى أين يُحملون وأين ستكون نهاية تلك الرحلة أم تراهم يحسبون أنفسهم في رحلة إلى البحر؟! أحسبهم يتساءلون فالرحلة المدرسية كانت تخصص مقعداً لكل طفل وطريقها مليء بالأشجار والأنهار والتلال، فلماذا يحشرون فوق بعضهم مثل أكياس الخبز؟ ولماذا لا يرون من النوافذ إلا الأبنية المهدمة والبنادق ونظرات الاستحقار والكره من حامليها؟! وتلك العجوز المستلقية بين المقاعد ترى هل تتساءل في قرارة نفسها أين سيكون مثواها الأخير؟ وهل ستحظى بجنازة لائقة كمن سبقها من أبناء جيلها؟ وهل عساها ستدفن في مقبرة القرية تحت شجرة الصفصاف العتيقة أم أنهم لن يستطيعوا أن يعودوا بجثمانها إلى مسقط رأسها كباقي المغتربين؟!

فحتى الجنازة أصبحت ترفاً في هذا الزمن! ترى كم حلماً مدفوناً بين تجاعيد جبينك يا جدتي الصابرة؟! وتلك الأم الشاحبة الوجه التي ترضع صغيرها ترى هل أبقى الحصار المفروض منذ سنين حول مدينتها على القليل من الحليب في ثدييها أم أنها تكذب على الصغير لكي تسكته بثدي فارغ؟! لكن لماذا لا يبكي؟! أتراه اعتاد الجوع أم أن كل تلك الصواريخ التي سقطت في مدينته أخرسته؟! ترى أي مستقبل ينتظرك يا صغيري؟!

لا تحزن فقبلك يوسف أُلقي في البئر صغيراً ثم أعاده الله ملكاً على قومه، وقبلك موسى أُلقي في اليم رضيعاً فرده الله إلى أمه وجعله من المرسلين، وذلك الشيخ العجوز النائم في مؤخرة الباص تراه يستطيع النوم مع هدير كل تلك المدافع؟! أم أن سمعه الضعيف لم يعد يدرك الأصوات البعيدة؟ ترى هل هو نائم حقاً أم أنه أشاح بشملته البيضاء عمداً على وجهه ليخبئ بها دموعه خجلاً من أحفاده الصغار؟! فأسئلة الأطفال لا ترحم، وإلى متى سيتمكن من إخفائها؟ أم أن كاميرات الصحافة ستلتقطها عن قريب؟! رحمك الله يا جدي فلا أجد شبيهاً لصبرك إلا صبر أيوب، يا للعجب كيف لهذه الحافلة أن تحملكم جميعاً! أهناك شيء في الأرض قادر على حملكم مع همومكم وأوجاعكم؟! أم أنها تحمل أجسادكم فقط بعد أن تركتم أرواحكم معلقة على أبواب منازلكم قبل أن تفارقوها؟! وهل تسيرون في الطريق أم هو الذي يسير بكم؟! يا لَلعجب كيف لهذا الطريق أن يسير بكم جميعاً؟ وهل في الدنيا شيء قادر على السير بكل ما أتيتم به من أحلام وآمال؟! أم أنه يسير بأقداركم فقط بعد أن دفنتم آمالكم وأحلامكم مع أجساد من رحلوا من أحبابكم؟!

سامحونا يا أهلنا، فنحن المعذبون بكم، الشاهدون على تهجيركم برعاية صَمْتنا لا نملك من أمرنا شيئاً ولا حول لنا ولا قوّة.

سامحونا إذا بدلنا محطة التلفاز لنشاهد قناة أخرى، ونشهد على قتل مَن بقي منكم في داره، ورفض الصعود في حافلات التهجير، سامحونا يا أهلنا.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد