ليست نهاية داعش في العراق فحسب؛ بل نهايته حتى الأبد، لا تعني نهاية الإرهاب والتطرف، كما أن انهياره بالكامل لا يعصم الدول والناس من التعرض له، من جديد أو لأول مرة! التهديد يبقى سارياً رغم انتهاء هذا التنظيم، فما دام أساس وجوده ونشأته على قيد الحياة مستمراً، فهذا يعني أنه سيولِّد وينشر تيارات دموية جديدة بكل سهولة.
تحررت الموصل، وستُحرر جميع أراضي العراق قريباً من تنظيم داعش، كما أن التنظيم ينهار في عدة أماكن أثبت قوته فيها؛ ما يعني قرب نهايته للأبد، أو في منطقتنا على الأقل.
لكن الموضوعية تقول إن ظهور تنظيم أشرس من داعش، أمر وارد بقوة، خصوصاً أننا لو راجعنا، لوجدنا أن عند نهاية كل تنظيم إجرامي، بداية ظهور جماعة أكثر إجراماً وتوحشاً.. فحين انتهت "القاعدة" ظهر "داعش"، والله أعلم بالاسم الجديد الذي سيظهر.
ما نريد قوله؛ هو أن نهاية المشكلة لا تقتصر بنهاية تنظيم؛ بل يجب أن تصل إلى الأساس الذي سبَّب ولادته.. الفكر المتطرف، واحتكار الحق، ومعاداة الآخر المختلف، هو الأساس الذي ولَّد ويولِّد جميع الجماعات التكفيرية القاتلة.. بمعنى أن الحرب الفكرية هي الأهم، فالحرب العسكرية تُنهي الإرهاب مؤقتاً، ولا تضمن عدم عودته من جديد.. ولن نضمن أماناً حقيقياً أو نشعر به، إلا بالقضاء على الفكر الذي أنشأه.
قولنا إننا انتصرنا في الحروب الفكرية، كذب؛ لأننا لم نخضها أساساً بعد! فسابقاً لم نتقِّ، فاضطررنا إلى استخدام العلاج.. لكن بعد أن أصابنا المرض وفتَكَ بِنا! ورغم أن العلاج أوقف بعض آلام المرض، فإنه لم يُزِل الورم بعد، وقد تكون الآلام القادمة أكبر وأقسى، فإن لم يُسعَ لاستئصال الورم، وعلاج البدن، فإن احتمال تضخُّمه وانتشاره وارد.
لا أُخفي أني كنت أظن أن ما جرى في المدن العربية التي تعرضت لـ"داعش"، جعل البعض يندم كثيراً على تحريضه، وإثارته الفتن والطائفية، ومحاولاته لتغيير الحقائق وبث السموم، والتي كانت السبب الأكبر لانتماء الكثير من الشباب إلى التنظيمات الإرهابية المتطرفة.. إلا أن ما شاهدته وقرأته بعد تحرير الموصل، أثبت زيف ظني، فصُدمت بأن العقول المتطرفة هذه لم تتحرر بعد!
فمنذ أن أُعلن النصر العسكري، وجدت حملات إعلامية كبرى للدفاع عن الإرهابيين بالطرق كافة، ولمهاجمة القوات المُحرِّرَة بكل أساليب الكذب الذي اعتادوه، وللعمل على قلب الحقائق، وإثارة الطائفية بين المذاهب والمكونات.
مقالات ومقابلات، منشورات فيسبوك، ونهيقٌ على تويتر! أينما ولّيت وجهي، أجد بصمات لضاخّي سموم الفتن، كلام غبيٌّ يتفاعل معه الكثير من الأغبياء، وكأن لا شيء حدث يجعلهم نادمين! المشكلة؛ هي أن هؤلاء التافهين لم يصلوا للمواقع التي احتلها "داعش" قط في حياتهم، ولا يعرفون حقيقة ما يجري من أُمور هناك، لكن ما إن يُعلن النصر العسكري في مكان ما، حتى يباشروا بعملهم في تشويه الانتصار إعلامياً، محاولين قلب المعركة من وطنية إلى طائفية.
لا يخفى على أحد، أن التحريض كان سبباً أكبر للانتماء إلى التنظيم الإرهابي والحماسة لأجله، أو تأييده على الأقل، وكان من الواجب أن يكون عقاب المحرِّض أشد من عقاب الإرهابي والقاتل نفسه، لكن حتى الآن لم يحاسَبْ منهم أحد؛ بل صار يُدفع لهم في سبيل استمراريتهم بدعوتهم للشر والإجرام.
لنقضي على "داعش" بحق، يجب أن نقضي على الدعشنة المنتشرة في النفوس والعقول والأفكار، وإلا فلا نصرٌ حق يتحقق، ولن يُصدَّق أننا نتحرر، إلا حين يتم التأكد من أن غالبية الشعوب لن تتأثر بخطاب التشدد والتحريض على الآخر مجدداً.
التعصب هو الآفة الأكبر، فهو المسبب وهو الأساس، إنهاؤه واجب إنساني، والتقصير في ذلك عارٌ ومهانة. وهنا لا أقصد التعصب الديني فقط؛ فهو لا يقتصر على بعض المتدينين، وهذا العالم والحاضر البائس، المُنبئ بمستقبل أكثر بؤساً وجهالة، يضع احتمالاً كبيراً بأنه حتى الملحد سيفكر في إنشاء تنظيم يقتل الدينيين من خلاله؛ لأنه يراهم قتلة، خصوصاً ببروز التطرف الإلحادي في الآونة الأخيرة- يا لها من أُمم! وكأن كل شيء تكون فيه يجب أن تُظهر التشدد والتطرف ونبذ الآخر لأجله!
نهاية "داعش" التنظيم في العراق والمنطقة قريبة جداً، ولا بد من العمل على إنهاء "داعش" الفكر قبل أن نقع في الخطأ مجدداً، والقضاءُ عليه واجب عالمي، فالخطر لا يهدد مكاناً دون آخر.. أجزاء من آسيا، وإفريقيا بجنوبها ووسطها اليوم، مهددة جداً بـ"داعش" العسكر، و"داعش" الفكر بدأ ينتشر كثيراً في أوروبا -وهو بداية التمهيد لانتشاره عسكرياً- المهمة صعبة، فـ"تحرير العقول أصعب المهام"، لكنها ليست مستحيلة، هي بحاجة لجهود جدية عظيمة من الجميع، فهذه هي مهمة الحفاظ على الانتصار، "والحفاظ على الانتصار أصعب من تحقيقه".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.