عادت القضية الكردية مجدداً إلى صدارة المواضيع الأبرز في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، العالمية والإقليمية، وإذا كانت المقاومة البطولية لبيشمركة كردستان العراق على ضوء السياسة الحكيمة لقيادته أمام هجمات مسلحي داعش، ودحرهم بمناطق من محافظات دهوك ونينوى وأربيل وكركوك منذ أكثر من ثلاثة أعوام، والتصدي لفلولهم حتى اللحظة،
وكذلك مشاركتهم الفاعلة في تحرير (عين العرب – كوباني) قد لفت نظر الرأي العام والمجتمع الدولي إلى الدور الكردي في محاربة الإرهاب، فإن إعلان قيادة إقليم كردستان العراق اعتبار الخامس والعشرين من سبتمبر/أيلول القادم موعداً لإجراء استفتاء تقرير المصير كان بمثابة النفير العام دفع الداخل والخارج من أنظمة وحكومات وكيانات معنية بقضايا الشرق الأوسط ودول عظمى وصغرى ومؤسسات عالمية ومنظمات سياسية وحركات المجتمع المدني إلى التعامل هذه المرة مع المسألة الكردية في العراق بصورة جادة وعملية وحاسمة، يختلف عما كان سائداً منذ عقود من غموض وتردد وخذلان وأنصاف مواقف تجاه قضايا مختلف الشعوب، وخصوصاً الشعب الكردي.
على الصعيد النظري، وبالاستناد إلى تجارب الحركة الكردية وحركات الشعوب التحررية في المنطقة والعالم، هناك شبه إجماع على ضرورة توافر جملة من الشروط لإنجاز حق تقرير مصير أي شعب في العالم على الصعيد العملي، وهي تنقسم إلى ذاتية تتعلق بكفاءات القيادة والبرنامج السياسي والأداة التنظيمية والوسائل الدفاعية والظروف الاجتماعية والثقافية والتماسك المجتمعي والقدرات الاقتصادية وموضوعية، تشمل الظروف والعوامل السياسية المحيطة من وطنية وإقليمية ودولية والموقع الجيوسياسي، والحدود الدولية البرية، والمجال الجوي، والمنافذ البحرية، والقدرة الدفاعية الاستراتيجية من تسليحية وبشرية وتكنولوجية، والاحتياط الاقتصادي لتعزيز عامل الصمود أمام احتمالات الحصار الذي قد يدوم طويلاً.
قد يقول قائل: وإلى متى سينتظر الكرد (والموضوع هنا يتعلق بكردستان العراق) لتوفر كل هذه الشروط الذاتية والموضوعية حتى يتحقق تقرير المصير بإعلان الدولة؟
والجواب -وبالاعتماد على ما سبق- ذو شقين: الأول شعب الإقليم قرر مصيره منذ عام 1992، عبر الاستفتاء والانتخابات البرلمانية بالفدرالية، التي هي أقرب إلى الاستقلال، في الظروف العراقية الخاصة، ولا يبدأ الآن من الصفر، بل أنشأ كياناً دولياً وبنية تحتية صلبة.
والشق الثاني: علينا التمييز بين عظمة مبدأ حق تقرير المصير بما فيه الاستقلال التام، وبين إمكانية تحقيقه وبين مشروعية وقدسية المشاعر الفردية، والإرادة الشعبية العامة في نشدان الحرية والاستقلال، وبين فرص تحقيقهما على أرض الواقع طبعاً من السهولة بمكان إعلان الاستقلال، ولكن العبرة في مدى القدرة على الحفاظ عليه وتطويره، وتجنب تعرض الشعب إلى المهالك والحصار؛ لأن الهدف السامي لنيل الحرية هو لتحسين ظروف حياة الشعوب، وليس لزجها في معارك جديدة، أو دفعها إلى الهجرة والتهجير، وأنا على يقين بأن القيادة الحكيمة لشعب كردستان العراق ليست في وارد اتخاذ خطوات غير محسوبة وغير مدروسة.
قبل نحو عشرين عاماً أعلنت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في (المجلس الوطني المنعقد بالجزائر)، وكنت حاضراً كأحد الضيوف، الاستقلال وقيام دولة فلسطين، ولم يمضِ وقت طويل حتى نالت الدولة الفتية المعلنة اعتراف أكثر من (65) دولة عضو في هيئة الأمم المتحدة.
ولكن وانطلاقاً من حقائق وتفاصيل الشروط الذاتية والموضوعية غير المكتملة وغير الناضجة، وبالرغم من اتفاقيتي (مدريد وأوسلو) وكل القرارات الدولية، والصادرة عن هيئة الأمم المتحدة، ووجود عشرات الدول العربية، وعودة القيادة، وعلى رأسها الزعيم الراحل ياسر عرفات، إلى أرض الوطن، فإن دولة فلسطين ما زالت حلماً عزيزاً في قلوب وعقول الشعب الفلسطيني، لم يتحول إلى واقع على الأرض.
قرار إجراء الاستفتاء من جانب قيادة الإقليم خطوة بالاتجاه الصحيح، فمن واجب القيادة العودة إلى شعبها دائماً وأبداً، وخصوصاً حول المسائل المصيرية، ومن حق الشعب على قيادتها الشرعية الامتثال لإرادتها بحسب الظروف والإمكانيات المحيطة، والأهم هو إيلاء الاهتمام اللازم لإنجاح خطوة الاستفتاء، وتمهيد السبل الكفيلة بإنجاز ذلك العرس الديمقراطي الحضاري، خاصة أمام من لا يريد الخير لشعب الإقليم، ويزرع العراقيل من الآن، إن كان من جانب الأعداء والخصوم داخل العراق وخارجه، وفي المقدمة الأنظمة في الدول المجاورة المقسمة للكرد ومراكز القوى المذهبية في بغداد، وبعض المجاميع المغامرة الكردية، التي تقف منذ ظهورها ضد مبدأ حق تقرير المصير للشعب الكردي.
من الممكن جداً، بل هناك متسع من الوقت أمام قيادة الإقليم لمعالجة (العامل الذاتي) قبل وخلال وما بعد الاستفتاء؛ لأن موضوع استفتاء تقرير المصير يخص كل أطياف وتيارات ومكونات شعب إقليم كردستان من كرد وتركمان و(كلدان – سريان – آشور) وعرب وأرمن، وجميع طبقات المجتمع الكردستاني، ومختلف التيارات السياسية والحزبية، وبالنهاية كل هؤلاء سيتحملون مسؤولية صيانة وتطوير ما يقرره الشعب بغالبيته، وفي نهاية المطاف فإن موقف المجتمع الدولي لن يتجاوز الإرادة الموحدة لشعب الإقليم، بل مرهون بقراره مهما طال الزمن أو قصر.
وكما أرى فإنه من العبث الارتهان إلى مواقف النظام الإقليمي والعربي الرسمي، فمعظم تلك الأنظمة إن لم يكن كلها، يعيش حالات الضعف والانكسار والتراجع والتأزم، بعضها يتخذ مواقف عدائية تقليدية، خاصة بجوار كردستان العراق، وبعضها يبحث عن شريك ينضم إلى فلكه، والبعض الآخر يبيع الكلام، والقسم الأخير، وخصوصاً من دول النظام العربي الرسمي للكرد، معه تاريخ طويل (مضحك مبكٍ)، فعندما تمتع بعلاقات جيدة مع نظام (صدام) عادى الكرد والقضية الكردية، وخصوصاً في العراق، وعندما ساءت العلاقات مع تركيا مثلاً رفع صور (أوجلان)، وفي فترة الصداقة مع الخميني أنكر وجود شعب كردي في إيران، وخلال الصراع مع نظام طهران الحالي و(جكارة فيه) يتذكر كرد إيران ويفسح المجال في منابره الإعلامية لبعض الأصوات الكردية، وخلال شهر العسل مع نظام الأسد يمنع ذكر الكرد السوريين، والآن يتذكرهم، بل يجري لقاءات إعلامية مع جماعات (ب ك ك) هناك.
من سوء حظ الشعب الكردي والشعوب الأخرى المحرومة من حق تقرير المصير أننا اليوم نجتاز عتبة القرن الجديد، ومناطقنا وبلداننا وشرق أوسطنا تعيش أسوأ المراحل وأكثرها دموية، لا قيمة فيها للقانون والنظام والأخلاق والإرهاب الدولي والقاعدي والداعشي سيد الموقف، والغلبة للعنف والسلاح، ولا مكان فيه للحوار، إنها مرحلة انتقالية صعبة قد تطول، وما على الشعوب وقواها الحية إلا المزيد من الصبر والصمود حتى ينبلج فجر الحرية، وينتصر الحق على الباطل، ويزول الاستبداد، وتسود الديمقراطية ولغة الحوار، وإن غداً لناظره قريب.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.