كثيرة هي الأسباب التي وأدت الربيع العربي، ولا حاجة لنا للتوقف عند أسلمة الثورات، أو غياب الوضوح التنويري فيها، المتمثل بمشاركة المثقفين، ولكن سأتناول هنا مكامن فشل الثورات التي خُطط لفشلها، ولا أريد أن أتحدث عن مؤامرة أيضاً، إنما الحديث يجري حول الأدوات السوفييتية واليسارية التي كانت تتمرن عليها الأنظمة التي جرت الثورات ضدها، بدءاً من تونس، ومروراً بليبيا ومصر، وانتهاء بسوريا.
ولا أعتقد أنه بات خافياً على أحد أن تلك الثورات أُفشلت، وانتصرت عليها الثورات المضادة، فما هي تلك الأدوات السوفييتية واليسارية التي كانت بذوراً لأعشاب ضارة تقتل نبتة الربيع العربي؟
يمكننا القول إن الجماعات اليسارية الماركسية واللينينية منها تحديداً، وأثناء الحكم السوفييتي لم تكن متفرغة للعمل في الدول العربية كما ينبغي لها، لكن الأنظمة التي حدث فيها الربيع العربي قد تأسست على نفس الأنماط الانقلابية التي كان يدعمها السوفييت؛ إذ إنه وبعد نجاح الانقلاب في بلد ما، كان يتم الانقلاب على البنية الاجتماعية وصهرها بما يمكنها من استخدام كل القيم لصالح النظام الحاكم، وهذا يعتمد على إفساد الشخصية الفردية في المجتمع الذي يحكمه الانقلابيون، ويمكنك -عزيزي القارئ- الوقوف على أحد أهداف حزب البعث السوري الذي يكرر دائماً: "الجماهير هي أداة الحزب في الوصول إلى أهداف الحزب"، وهذا يعني أن الحزب ليس أداة الجماهير للوصول إلى ما تريده، إنما الجماهير في خدمة الديكتاتور العسكري الذي سبق الجميع بالوصول إلى الحكم.
فقد ظهر تطبيق هذا الشعار جلياً في سوريا؛ إذ قام النظام بتنمية الجماعات ذات التوجه السلفي في محافظتي الرقة ودير الزور، كذلك وجدنا الجماعات الصوفية التي كانت تنمو في كل المحافظات، وكذلك وجدنا حركات تبشيرية شيعية في ريف محافظة الحسكة، وفي المناطق الكردية كان هناك نشاط قوي للأحزاب اليسارية، كالحزب الشيوعي والاشتراكي، والعمل على انشقاقها، وهكذا كانت التحضيرات من قِبل النظام قائمة على قدم وساق، فيما لو حدث أي حراك جماهيري يكون النظام له بالمرصاد عاداً له العدة.
إنه لمن المذهل أن نرى وجود داعش في محافظتي الرقة ودير الزور والـPYD في مناطق الأكراد، وبالفعل استطاع النظام السوري تحويل مجرى الأحداث من مطالبة بالحرية والكرامة وتغيير النظام القائم، إلى حروب عديدة تتصدرها الحرب على الإرهاب.
طبعاً علينا ألا ننسى عدة عوامل أخرى أسهمت في نجاح تلك الأدوات اليسارية الراديكالية في بلدان الربيع العربي، وجعلها أدوات فعالة في دول الربيع العربي، كالتحالف الباطني بين الولايات المتحدة وإيران، وقد اعتقد الكثيرون أن ذلك لا يتعدى سياسة أوباما الخاطئة، وأنه فيما لو جاءت حكومة جمهورية ستتغير الموازين، لكن ذلك لم يختلف كثيراً مع مجيء الرئيس ترامب، ولا تزال السياسة الأميركية متخبطة كما كانت في عهد أوباما، ولا زالت العلاقة الباطنية قائمة، ويرى روبرت فورد، السفير السابق في سوريا، أن أوباما لم يترك كثيراً من الخيارات لخَلَفه ترامب في سوريا، وأرى أن هذا التوصيف ينسحب على مجمل السياسة الأميركية في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي عموماً، وليس في سوريا على وجه الخصوص، وهذه العوامل جعلت لتلك السياسات إسهاماً فعالاً في إفشال الربيع العربي.
بناء على ما تقدم يمكننا أن نستخلص أن الأنظمة التي استوحت سياساتها من حيث تدمير شخصية الفرد والبِنى الاجتماعية في دول الربيع العربي كانت قد قضت على الضمير الجمعي لكل دولة من الدول التي حدثت فيها ثورات الربيع العربي، ولا يخفى على أي منا تأخّر بعض المحافظات السورية في الانضمام إلى الثورة، وكيف كانت التظاهرات نفسها تقتصر على أيام الجمعة في الأسبوع، وانصراف المتظاهرين إلى أعمالهم بقية أيام الأسبوع، ما كان يعطي الفرصة للنظام لتدبير الخطط للقضاء على الثورة، كذلك فإن قضاء السلطات الانقلابية في بلدان الربيع على مكونات الضمير الجمعي أدى لحروب أهلية داخل تلك البلدان بعد مقتل أو رحيل الديكتاتور.
خوف الأنظمة الإقليمية المحاذية لبلدان الربيع العربي من حدوث ثورات مشابهة للربيع العربي في بلدانها دعاها للتعامل مع تلك الثورات بخبث شديد، فمنها من كان يدعم المقاومة في سوريا، ولكنها كانت تتحكم بقرارات المقاومة الميدانية، ما جعلها تتباطأ في الانقضاض على النظام وخلعه.
ومع ظهور إيران كدولة تتدخل وتنفذ في الدول العربية وسيطرتها على كبريات العواصم العربية التاريخية، اعتقد معظم المحللين أن هذا سيدعو الدول العربية لمقارعتها، خاصة في الخليج العربي، ولكن ظهر أن الدول العربية لا تكترث بالنفوذ الإيراني، ولا تستشعر خطره بقدر خشيتها من الإخوان المسلمين، وعلى المستوى الشخصي اعتقدت أن الدول العربية الخليجية ستتحالف مع جماعة الإخوان المسلمين ريثما تتخلص من الخطر الإيراني، لكنها أظهرت عداءها لهذه الجماعة، وها هي اليوم تحاصر دولة قطر، فيما تقوم إيران بتجربة صواريخها البالستية في محافظة دير الزور تكريساً لهلالها الشيعي.
ختاماً يجب أن نذكر بأن المجتمعات الإنسانية لها قوانينها التي تنتصر، رغم أن بعض السياسات تؤخرها، لكن لا بد للقانون الاجتماعي الإنساني أن يتقدم، كما وجدنا تفكك الاتحاد السوفييتي بين ليلة وضحاها فسقط سقطته المدوية تلك.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.