صرخة من مقابر الأرقام

ربما أجد منكم مَن يقول: قد يشكل الحي خطراً على الأعداء فيأسرونه أو يقتلونه، ولكن أيشكل الميت على الأعداء خطراً أيضاً حتى يتم احتجاز جثمانه وامتهانه؟ أم أن ذلك نوع من العقاب لإنسانية الإنسان، وامتهاناً لكرامته حياً وميتاً؟

عربي بوست
تم النشر: 2017/07/01 الساعة 03:36 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/07/01 الساعة 03:36 بتوقيت غرينتش

لجميع الناس أهل يطمئنون عليهم أحياءً، وإن ماتوا يدفنوهم بأيديهم ويتركونهم ليرتاحوا في قبورهم بأمان، إلا في فلسطين، فنحن استثناء في كل شيء، وكأننا صنفٌ أقل من البشر، فالأحياء منا الذين يرفضون الاحتلال ويقاومونه يحاصرون، ويؤسرون، ويضطهدون، ويقهرون، وحتى تحت التراب فالحال لا يختلف كثيراً، فالشهيد منا لا حرمة له، ولا يُعترف به، فلا شاهد قبر يحمل اسمه، ولا هويته، ولا تاريخ وفاته.. فهو لا شيء لُيحترم.

ربما أجد منكم مَن يقول: قد يشكل الحي خطراً على الأعداء فيأسرونه أو يقتلونه، ولكن أيشكل الميت على الأعداء خطراً أيضاً حتى يتم احتجاز جثمانه وامتهانه؟ أم أن ذلك نوع من العقاب لإنسانية الإنسان، وامتهاناً لكرامته حياً وميتاً؟

حسناً سأجيبكم عن هذا السؤال في معرض حديثي، وسأحاول قدر الإمكان الاختصار، وأعذروني إن ركزت الحديث عن بلال أخي؛ لأنه أوجع قلبي ولا يزال.. وأرجوكم أن تدعوا له ولغيره من الشهداء بالرحمة والقبول.

بعد بلال غدت حياتي مِن ألِفها إلى يائها بؤساً وألماً وشقاء وحرماناً.. فلا أخ لي ليسند ظهري، بلال الآن ومنذ ست عشرة سنة يرقد في مقابر الأرقام.. شاهدته للمرة الأخيرة في صباح يوم آذاري مشرق دافئ، تفتح ربيعه وعجَّ بالحياة، قبَّل بلال رأس ويدي والدتي قبل خروجه، وطلب منها أن تدعو له بالتوفيق والقبول، وخرج في ذلك الصباح ولم يعد حتى الآن.

كان بلال حينها في التاسعة عشرة من عمره شاباً يفيض شباباً وحيوية.. عشق القدس، وهام بها حباً، فخرج يحضر مهرها وخضابها.. لم أتمكن وأمي من وداعة وإلقاء النظرة الأخيرة على جثمانه.. ماتت أمي كمداً وحسرةً عليه بعد شهرين من استشهاده، فبقيتُ في هذه الدنيا وحيدة أصارع قسوتها دون معين، ما جرح قلوبنا وعذبنا وعجَّل بوفاة أمي حزناً، أن الاحتلال قد احتجز جثمان بلال، وحرمنا من أن يكون له ضريح نزوره، ونقرأ آيات من القرآن عليه، عساها تُسكن أرواحنا المعذبة.

أخي بلال يرقد في مقبرة سرية تُعرف باسم مقابر الأرقام، بين جثث كثيرة وغير معروفة، لفلسطينيين وعرب استشهدوا خلال مقاومتهم للمحتل الغاصب. لا هدف لتلك المقابر سوى عقاب ذوي الشهداء؛ لأنهم أنجبوا وأخرجوا من بيوتهم مَن يقاوم الاحتلال ويقض مضجعهم، فيحرمونهم من وداعهم وزيارة قبورهم، وإلقاء طوقٍ من الياسمين والرياحين عليها.

كم أتمنى لو أعلم في أي مقابر الأرقام يرقد رفات أخي.. وآهٍ لمقابر الأرقام ما أبشعها وأبشع اسمها! فهي مدافن سطحية وبسيطة يحاط كل مدفن بالحجارة كعلامة تشير إلى وجود قبر، ويتم تثبيت لوحة معدنية تحمل رقماً معيناً مكان شاهد القبر، يحتفظ الاحتلال بملف يحمل رقم اللوحة ذاته ويضم المعلومات الخاصة بكل شهيد، ولا شيء يضمن لنا أن بلال يختلف عن كثير من الشهداء غيره ممن تمت سرقة أعضاء أجسادهم بعد استشهادهم.

وفي تقارير صحيفة لصحفيين أجانب زاروا تلك مقابر الأرقام، وصفوها بأنها مدافن رملية قليلة العمق، ما يعرضها للانجراف بفعل العوامل الجوية عدا عن نبش الحيوانات لها، فتتعرى الجثامين، وتصبح وليمة سهلة للحيوانات آكلة اللحوم كالكلاب والنمس والغربان وغيرها لتنهشها كيفما تشاء.

وفي مقابلة مسجلة بثها التلفزيون الإسرائيلي مع بروفيسور عمل سابقاً رئيساً لمعهد التشريح "أبو كبير" قال فيها: "إن المقابر السرية تقع جميعها في مناطق عسكرية مغلقة يمنع الاقتراب منها؛ حيث يتم دفن الشهداء في قبور لا يزيد عمق الواحد منها عن 50 سم، وتكون القبور فيها متلاصقة"، وقال أيضاً في مجمل حديثه: "انكشفت هذه القبور بفعل العوامل الطبيعية من مياه الأمطار والرياح وانجرافات التربة، ما أدى إلى اختلاط عظام الشهداء بعضها ببعض".

وجاء في تقرير نشرته القناة الإسرائيلية الثانية، أن خبراء الطب الشرعي في معهد "أبو كبير" يستأصلون الجلد، والقرنيات، وصمامات القلب والعظام من جثث تعود لفلسطينيين وعمال أجانب وجنود من جيش الاحتلال، وغالباً ما يتم ذلك من دون إذن أقارب هؤلاء.

وفي تقرير سابق نشرته الجزيرة.نت بتاريخ 23‏/12‏/2014 بعنوان (الغموض يلف "مقابر الأرقام" السرية بإسرائيل)، أن المحامي أندريه روزنتال كان حاضراً عند فتح القبور، وإنها لم تكن في صفوف مستوية، وإنه لم تكن هناك أي علامات تدل على وجودها، وأن "جرافة حفرت في عمق قليل فظهرت بعض الجثامين التي وضعت في أكياس ومسح ما عليها من معلومات، ولم نتمكن من تشخيص الجثث دون فحص طبي".

بلال أخي ليس وحيداً في هذا الانتهاك الذي طال شهداءنا، وما دفعني للكتابة عنه الآن هو وجود جثامين لشهداء محتجزين داخل ثلاجات الاحتلال منذ فترات طويلة، أمهات هؤلاء الشهداء تكاد الحسرة تأكل قلوبهن، ولن يهدأ لهن بال قبل أن تطمئن قلوبهن إلى أن أبناءهن الشهداء ينامون بسكينة في قبورٍ يستطعن زيارتها، وقراءة الفاتحة على أرواحهم.. وأخاف أن ينتهي حال تلك الأمهات كما انتهى حال أمي قبل ست عشرة سنة.

وفي هذا اليوم، أصلي لأجل أن تطال الرحمة روحك وأرواح جميع الشهداء يا بلال.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد