درس الاحتلال الداعشي

‏الاحتلال الداعشي قدم درساً للعراقيين الرافضين للتعايش تحت جلباب قانون العدالة الاجتماعية، وعلمهم ضرورة إعمال الحوار والوسائل الديمقراطية والقانون لتسوية الخلافات الداخليّة، وألا تتصدر الأحزاب المسيطرة على الإدارة والسياسة مشهد الرفض، فتكون هدفاً متاحاً ومستساغاً لبيئة محفزة للإرهاب والحرب الطائفيّة.

عربي بوست
تم النشر: 2017/06/26 الساعة 11:25 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/06/26 الساعة 11:25 بتوقيت غرينتش

عمليات تحرير نينوى‬⁩ انطلقت بعد احتلال استمرَّ قرابة العامين والنصف، وقد تعايش قرابة 2 مليون و400 ألف تحت إكراه احتلال توحش داعش غير المبرر على "سكان نينوي"، وكان جل غضبه على الأقليات غير السنية، وطيلة تلك الأيام السوداء كانت جماعات الحسبة والقضاء والأمنية تختطف المدنيين بتهم متعددة وتقتلهم بالشبهة.

‏قادة داعش صدموا باجتماع أهل العراق مع التحالف الدولي لحربهم وتحرير المدن العراقية المحتلة.

وكان أثر الصدمة كبيراً عند إعلان العبادي شنَّ عمليات التحرير، في مارس/آذار 2015، وإن كانت من قبل هذا التاريخ معارك تحرير، لكن بقيادة فصائل الحشد الشعبي التي انطلقت، في نهاية أغسطس/آب 2014، وأيضاً عمليات تحرير واسعة للبيشمركة وحلفائهم من العشائر والأقليات بإسناد التحالف الدولي، انطلقت في 8 أغسطس/آب 2014، ولما بادرت القوات المشتركة العراقية بهجوم موسع على داعش في نهاية عام 2015، بعد تحرير الرمادي ومدن هيت وكبيسة والرطبة، بعد شهور من المعارك الصغيرة بدأت وحدات داعش تحسب حسابها للقوات المشتركة العراقية، وتبدأ مرحلة التحول من وضع الهجوم والاحتلال إلى الدفاع والهزيمة، حتى جاء نصر الفلوجة، في يوليو/تموز 2016، الذي عدل الموقف العسكري للقوات المشتركة، وجعل للعراق قدم صدق في معادلة الحرب على داعش إقليمياً ودولياً.

‏أعلن بعدها العبادي انطلاق معركة تحرير نينوى، في أكتوبر/تشرين الأول 2016، وبدأت معركة ⁧‫الحسم‬⁩ وتم إطلاق عملية ⁧‫قادمون يا نينوى وقاتل الجميع في صف واحد، الجيش والشرطة الاتحادية ومكافحة الإرهاب والبيشمركة والحشد والعشائر في معركة "اجتثاث العدو الداعشي من أرض العراق".

إسناد التحالف الدولي كان ضرورياً، ولم يكن للقيادة المشتركة العراقية الاستغناء عنه، والاعتماد على الموارد البشرية من العسكر والأمن والحشد والعشائر، ولا استبداله بالمحور الروسي الإيراني، الحاجة للتحالف الدولية كانت عسكرية وتقنية وسياسية واقتصادية وإعلامية.

‏وينبغي إلقاء نظرة متأنية في الخط الزمني لمعارك التحرير بالضد، من داعش من أجل عدم عبور ما جرى من أخطاء ونكسات، ولإطفاء نيران التدهور المحتمل في مرحلة ما بعد النصر.

بدأ الحراك السني الشعبي في المحافظات ذات الأغلبية السنية بطابع سياسي مباح ولم يكن طائفياً، ولكنه تطور إلى منصات ذات صبغة طائفية وعمق فيه الكثير من الكراهية، عنوانه مشاطرة هيمنة سيطرة الأكثرية السياسيّة والحكومية الشيعية على مقاليد الإدارة والحكم منذ 2005.

رغم أن الشيعة والكرد لم يكونوا هم السبب الرئيسي في عدم مشاطرة السنة في السياسة والحكم، بل اختلال الحافز الديني في المشاركة بالانتخابات والحكومة، وكانت فتوى الضاري هي الأشهر آنذاك في أحداث ذلك الاختلال الانتخابي بين الشيعة والسنة، وكانت المحاصصة الطائفية والقومية التي جاء بها الاحتلال الأميركي هي التي رسخت هذا الاختلال بالتوازن، الأمر الذي دفع الكثير من السنة إلى دعم المعارضة ودعوات المظلومية والأحزاب الطائفية وجماعات التمرد المسلحة، إلا أن أحزاباً إخوانية وأخرى ليبرالية قادت الصراع السياسي كموالاة للعملية السياسية والحكومية مع ضعف واضح فيها، بسبب عدم الاتفاق وانعدام الالتفاف على رمزية دينية أو عشائرية أو مجتمعية أو حتى قضية توحد همهم وأهدافهم.

وكانت الحكومات السنية الإقليمية تدعم الأحزاب ذات الصبغة الطائفية السنية والليبرالية، فيما كانت مخابراتها ومؤسسات الظل تدعم الجماعات المسلحة السنية (السلفية والصوفية والإخوانية والليبرالية)، لكن داعش أكلتها جميعاً في فترة ما بعد 2012.

‏نخرت الانقسامات الحزبية جسد القوائم السنية الموحدة في بداية 2013، فلجأ الكثير من عشائر السنة إلى توظيف داعش تحت عناوين المظلومية، حتى كانت الصحوة المتأخرة عندما احتل داعش نينوى عام 2014، فتغير الطابع عنهم من ثوار العشائر والمجالس العسكرية وحماة السنة إلى توصيفهم بالإرهاب والبكاء عند بغداد وأربيل وواشنطن لحربهم وطردهم من أرضهم.

‏ومن يرجع إلى أرشيف عامي 2012-2013 في تلك المرحلة سيجد العجب من مكر داعش بزعامات العشائر والدين والسياسة لأهل السنة، فقد وُجدت في خيام وسرادق الاعتصامات حلقات وجلسات أعدت لبيعة البغدادي، ومعسكرات لترويج الكراهية الطائفية وكتب ومنشورات تكفيرية!

‏وكان كثير من السياسيين والحكوميين وشيوخ العشائر السنية يغضون الطرف عن تلك البلايا والطامات، بل وقف البعض منهم إلى جانب هؤلاء المسلحين التكفيريين، ومنهم من انضم لهم تحت ذريعة رفض الهيمنة الشيعية على العراق.

إزاء هذا الواقع، اعتمدت قيادة داعش شعار حماية أهل السنة في العراق وسورية أسلوباً لجذب الموارد البشرية لوقف تمكين الأكثرية الحاكمة الشيعية، وتعددت طرقها في التعبير عن ذلك منها ارتكاب المجازر بحق القوات الأمنية واستهداف العزل في المناطق ذات الأغلبية الشيعية.

‏أقدم الدواعش والتكفيريون آنذاك على قتل الأبرياء من القوات الأمنية وقتل الشيعة وفقاً لأوراقهم الثبوتية بمجازر مروعة.

‏عملت قيادة داعش على ترسيم انقسام العراق إلى مناطق طائفية، ثم تقسيم مناطق العرب السنة بحسب قواعد الولاء والبراء الداعشية، بعد موجات من الذبح والتهجير القسري والسبي واستحلال أموال العراقيين بحسب التوحش الفقهي الذي يؤمنون به، وانقسم العراق إلى ثلاث دول وجيوش، ولكن المواطن العراقي الشريف لم ينسَ مدينته وثوابته العراقوية، وأيضاً اتحد لطرد داعش كونه السبب الثاني بانقسام العراق شكلاً ومضموناً، بعد قانون المحاصصة للحاكم الأميركي المدني بول بريمر.

وفي زمن النصر على داعش، ارتفعت دعوات التقسيم والاستقلال والفدرالية من طرف السياسيين الكرد والبعض من حلفائهم السنة، وعارضتهم غالبية الأحزاب الشيعة والبعض الآخر من السنة، والذين صار شعارهم وحدة العراق دون أي نقص!

‏وفي زمن الضعف الكلي لأحزاب نينوى، ارتفعت دعوات تقسيمها وتحويلها إلى الفدرالية من طرف الأقليات وغالب السياسيين العرب السنة، ومن أجل ذلك دعمتهم كردستان، وصار شعارهم حرية تقرير المصير حق لكل مكون دون أي تجاوز على الدستور والقانون!

بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات، لم يعد يعني أهالي نينوى من تسبب بسقوط المحافظة؟ ولأجل ماذا؟ فصار جلّ الاهتمام هو إنهاء الغربة، وسرعة العودة إلى بيوتهم وحياتهم، قبل يونيو/حزيران 2014، بأي ثمن وبأية وسيلة.

نينوى على أبواب تدخّلات سياسيّة متناقضة أوسع نطاقاً مما كانت عليه قبل احتلال داعش، ولا بد من مراجعات لبعض تلك الأسباب والحالات التي كانت هي السبب فيما آلت إليه نينوى من تدمير في بنيتها الاجتماعية والاقتصادية والديموغرافية.

الأخطر في إهمال هذه التدخلات، هو ما يفرضه المنتصر من حاكم عسكري لإدارة نينوى للانتفاع من جهود العسكر للتخلص من داعش وأنصاره وإخراجه من نينوى، لكن أليس فساد العسكر هو السبب الرئيسي في احتلال نينوى، وبحسب الملف التحقيقي لسقوط الموصل الذي أنجزته لجنة الأستاذ حاكم الزاملي، والذي تضمن شهادات واعترافات متواترة عن ذلك، وهل نينوى التي أنجبت مئات العلماء والمختصين من كافة التخصصات عقمت أن تنتخب منهم إدارة مدنية لحكم نينوى وبالوسائل الديمقراطية والدستورية؟!

الآن بات الأمر مكشوفاً تماماً، قلنا أكثر من مرة من أراد عودة أرض العراق إلى احتلال داعش فطريقه واضح، وهو إهمال أسباب تمكينه في نينوى والأنبار وصلاح الدين، ومن أراد التقسيم بغير الوسائل الدستورية فطريقه واضح، وهو الحرب الأهلية ولا مجال للحالة الرمادية.

ثمة فئات من المجتمع العراقي أصبحت منتفعة من الاحتلال الداعشي، أخذت كل ما يمكن أخذه من المصالح والمناصب، لكن المشكلة في مرحلة هزيمة داعش، أين تذهب هذه الفئات ورغبتها بما يخالف الدستور والقانون؟!

نينوى هي العمق العربي السني، وهي قلب الصراع العربي الكردي القادم، وهي جزء عضوي من مرحلة صراع المنتصرين "الشيعة والكرد" ولا يمكن فصل الصراع فيها عما جرى قبل احتلال داعش من جدل وتنازع وكل رؤية متأثرة بأجندة خارجية.

وليس النصر على داعش شرطاً وحيداً لعودة العراق موحداً أو عيش مكوناته ضمن قانون (لا لك ولا عليك)، بل لا بد من تبني الدستور المتفق عليه.

وإن الخلاف على وحدة أراضي نينوى بين بغداد وأربيل هو اختلاف بين رؤيتين، تناقض إحداهما الأخرى، الأولى تتهم الثانية بالضعف والأخرى تتهم الأولى بالتمرد.

ولا تزال الأحزاب السنية والأقليات سجينة لحظة نجاح تجربة إقليم كردستان، وكأنهم لم يشهدوا خيبة استقلال إقليم جنوب السودان ومحاولات الكرد في جنوب تركيا وشمال إيران والتمرد المسلح السيئ الصيت، ولا يزال بعضهم على حاله وهو يقول (لا حوار بعد الآن، بل إقليم وربما تقسيم!).

خيار التقسيم أو الاستقلال لا علاقة له بالاحتلال الداعشي أو الجماعات التكفيرية، إنما تفرضه طبيعة موازين القوى المنتصرة على جغرافية ما، وهذا الخيار له شروطه وأسبابه الموضوعية كي يَكُون واقعاً.

والتفرق داخل كيانات القوى المنتصرة "الشيعة والكرد" يكاد يصبح تشظياً داخل كل فريق على مسائل اقتصادية ودستورية وجغرافية متفاوتة الخطورة، وهذا قد يكون طريقاً إلى وحدة العراق مرة أخرى بعد الوصول إلى الذروة الانقسام والاختلاف فيما بينهم، الأمر الذي يحجب ثقة المجتمع الدولي عن انقسام العراق تحت إدارة الضعفاء المختلفين، وخوفاً من تغلب الجماعات التكفيرية مرة أخرى.

‏الاحتلال الداعشي قدم درساً للعراقيين الرافضين للتعايش تحت جلباب قانون العدالة الاجتماعية، وعلمهم ضرورة إعمال الحوار والوسائل الديمقراطية والقانون لتسوية الخلافات الداخليّة، وألا تتصدر الأحزاب المسيطرة على الإدارة والسياسة مشهد الرفض، فتكون هدفاً متاحاً ومستساغاً لبيئة محفزة للإرهاب والحرب الطائفيّة.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد