لطالما خالجني شعور بأن أقف يوماً أمام شهيد وهو يحتضر وأسأله: لماذا تموت؟ هل أنت مقتنع أن العالم سيتغير بعد موتك؟ هل أنت متأكد أن دمك لن يستفيد منه اللصوص والمتسلقون؟ هل أنت مقتنع تماماً أن السياسيين لن يقايضوا على دمك بمكاسب قد تكون أقل بكثير مما أرقت دمك من أجله؟ هل أنت متأكد أن مَن تحارب من أجلهم يستحقون الحياة أكثر منك وأنت تستحق الموت؟
لا أعرف بالضبط ماذا ستكون إجابته، ومن المؤكد أنه في حضرة الموت لن يجيبني بلغة مصطنعة، ولا بالشعارات، ولن ينافق، ولكنني محتار بمَ سيجيب وأظن وقد يكون هذا الظن إثماً أو رجماً بالغيب أنه سيصمت ولن يجيب.
شعور الانتقال إلى الموت يموت مع موت صاحبه ولا يمكن لأحد أن يعطينا تفسيراً حقيقياً ما دام حياً، فهناك ثوان معقدة قبل تسليم الروح، أو ربما بعدها بقليل، لا شك أن الدماغ يغوص فيها داخل تفاصيل كثيرة، ولا شك أن الأعضاء كلها لا تموت دفعة واحدة، ولا شك أن الروح من أمر ربي، وما أوتينا من العلم إلا قليلاً.
إبان الثورة الفرنسية وحركة المقاصل والإعدامات انتشر في الأوساط الفرنسية أن الروح تبقى في الرأس المفصولة لمدة ربع ساعة، وأنه يفكر ويحس أن رأسه قد فصل عن جسده، فأراد طبيب فرنسي معرفة الحقيقة.
علم هذا الطبيب أن صديقاً له قد حكم بالإعدام فاتفق معه على أنه بعد قطع رأسه سيأتي مباشرة ليكلمه، وأن عليه إعطاءه إشارة ما حتى لو على شكل إيماءة أو حركة أو تغيير في شكل الوجه، تثبت أنه يحس بأن رأسه قد قطع، ولكن للأسف لم يصل الطبيب إلى نتيجة مرضية رغم أنه زعم أن صديقه أومأ له ببعض الحركات.
هنا لعبت مخيلة الفلاسفة والروائيين والمسرحيين في الشيء الذي يفكر فيه الإنسان في تلك اللحظات بعد فصل رأسه وكيف ينظر إلى ما حوله وكيف يرى فلسفة الكون، وما هي نظرته للحياة، وألفت حول ذلك الكثير من الكتب والروايات.
في سوريا اليوم حرب غير كل الحروب، فهناك ضبابية كبيرة، ولا يعرف العدو من الصديق، والكثير من المقاتلين قد لا يعلمون مَن يحركهم أو مَن المستفيد الحقيقي من هذه الحرب، وسيكون صعباً عليهم أن يفهموا تعقيدات شركات السلاح وشركات الإعمار ومشاريع الجماعات المتطرفة وألاعيب المخابرات وأجندات الدول وأشياء كثيرة قد تبدو غير مفهومة للخبير والمحلل الذي أفنى عمره في تحليل الاستراتيجيات، فما بالك بمقاتل شاب مملوء بطاقة التغيير التي لا يعرف أين يصرفها ويقتنع جزافاً أنه على الطريق الصحيح، وهذا يجري على كل المقاتلين المحاربين على الأرض السورية دون تمييز بين أحد منهم، سواء كان يحارب بدافع ديني أو قومي أو طائفي أو موهوم بأية فكرة أخرى.
الحرب كريهة، ولا يستفيد منها طرف، وهي تترك ندباً وآثاراً لا تندمل مع الزمن، وتترك جروحاً تظل تنخر في الذاكرة، وفي الآخر تنتهي الحروب، ولكن الدماء كلها تكون قد ذهبت هدراً؛ لأنه لا أحد سيصل إلى مبتغاه، والكل خاسر، وكل ما سيبقى وطن تحول إلى قاع صفصف تذروه رياح النكبات.
الكبار قد يكونون مذنبين أو أبرياء شبه مذنبين ولكن ما هو شعور الطفل وهو يذبح وقد امتلأت أرضنا برقابهم البريئة؟ بدءاً بأطفال الحولة الذين ذبحهم النظام بدم بارد، وليس انتهاء بالأشلاء المتناثرة على الطرقات كل يوم، فيا ترى كيف يفكر ذلك الطفل في لحظات ما قبل الموت؟ ما هي فلسفته؟ هل يشتمنا في تلك اللحظات؟ هل يرانا وحوشاً مما رآها في أفلام الكارتون أم غيلاناً مما سمعه من حكايات الجدات وهو يلتحف حضن جدته في برد الشتاء؟
لا نستطيع أن نسأله، فلن يجاوبنا بعد الذبح، وحده الله يسأل يوم القيامة: "وإذا الموءودة سُئلت بأي ذنب قُتلت".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.