عندما ننفخ على الشمس لنُطفئها

ما خطر في بالي في تلك اللحظة هو أن مسألة حظر الصحف، والرقابة، والقيود، لا يمكن أن تستمر. وقلت في نفسي: سيأتي يوم لن يكون بإمكان هذا الشرطي منع مرور المعلومات والمواد الإعلامية عبر الحدود.

عربي بوست
تم النشر: 2017/06/21 الساعة 08:21 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/06/21 الساعة 08:21 بتوقيت غرينتش

كنت مسافراً قبل حوالي 25 سنة إلى دولة عربية، حين توقفت للتفتيش، بطبيعة الحال. وطبعاً لا ضير في ذلك، فمن حق أي دولة أن تخضع المسافرين لإجراءاتها الإدارية والأمنية، وحيث إنني لا أحمل سوى متاعي الشخصي، فإن الأمور جرت بشكل طبيعي، وبابتسامة من الشرطي الذي يقوم بالتفتيش، والدردشة في أمور عادية.

ولكن، فجأة، انتفض الشرطي، وبدت عليه علامات الغضب، وكأنه وجد سلاحاً أو شيئاً من الممنوعات في شنطة السفر، ورفع يده من الشنطة وفيها صحيفة القدس التي تصدر في مدينة القدس، وقال لي: كيف تحمل هذه الصحيفة إلى هنا؟ ألا تعلم أنها ممنوعة؟ قلت بدهشة ظاهرة: ولكنها صحيفة فلسطينية، تصدر في القدس. قال: لا، هذه صحيفة تصدر في أرض العدو، وعلى الفور، صادر الصحيفة، ومنعني من حملها إلى داخل البلد.

ما خطر في بالي في تلك اللحظة هو أن مسألة حظر الصحف، والرقابة، والقيود، لا يمكن أن تستمر. وقلت في نفسي: سيأتي يوم لن يكون بإمكان هذا الشرطي منع مرور المعلومات والمواد الإعلامية عبر الحدود.

وبالفعل، جاء الإنترنت لكي يثبت ذلك، فلا معنى اليوم لمنع مرور الصحف من دولة إلى أخرى، أو حظر الكتب أو غيرها من الإنتاج الفكري.

تذكر كتب التاريخ أن الحاكم في الأزمان الغابرة كان يمتلك منادياً في مدينته، يمثل إذاعة خاصة له. لا يجوز، ولا يمكن لهذا المنادي أن يقول غير ما يملي عليه الحاكم، ويمنع أي شخص ببث وإذاعة أي شيء بدون إذن الحاكم.

وذكرت أيضاً كتب التاريخ أشكال الرقابة على الصحافة والكتب والأدب، وخاصة الرقابة قبل النشر. وشملت القيود منع إصدار أية مطبوعة دون إذن الحاكم، ومنع إدخال أو إخراج المطبوعات دون إذن الحاكم (وموظفيه)، وفرض العقوبات الصارمة على كل ما ينشر من مواد قد تشكل إساءة للحاكم أو سياساته (طبعا إساءة من وجهة نظره)، وبالتالي، تم تكميم الأفواه، بل وتكميم الآذان أيضاً.

وقد ناضل المفكرون والعلماء والإعلاميون والمبدعون لعقود طويلة في دول عدة حتى تم انتزاع حرية التعبير في الدول الغربية، وما زال النضال مستمراً، ودفعوا أثماناً باهظة ثمناً لحرية التعبير.

ولكن ينبغي الإشارة إلى أنه لا توجد حرية مطلقة، بل يتم وضع قيود على ما يتم نشره وفقاً لاعتبارات يتم التوافق عليها وطنياً، ومن خلال البرلمانات والمجالس التشريعية، وليس بقرار من الحاكم أو الرئيس أو الملك.

ومع كل ذلك، فما زلنا نشهد ممارسات تعود إلى القرن السابع عشر في السياسات تجاه وسائل الإعلام في العالم الثالث، وما زال الحكام لا يحتملون وجهة النظر الأخرى، وأقصد هنا وجهة النظر التي لا تهبط إلى الإسفاف في الطرح والنقاش.

والسؤال المهم، الذي نحتاج إلى التفكير فيه ملياً هو: هل يمكن بالفعل عزل الشعوب عن محيطها، ومنعها من الوصول إلى المعلومات؟ هل يمكن أن نضع الشعوب في دائرة لا يتلقون داخلها إلا المعلومات والآراء التي يبثها الحاكم لهم؟ أم أن تكنولوجيات الاتصال الحديثة كسرت هذه الحواجز الوهمية، وجعلت من المستحيل فرض الحصار الإعلامي على شعب من الشعوب على الوجه الذي كان قائماً قبل أكثر من قرنين من الزمان؟

برأيي فإن تقييد نشر المعلومات، وحجب المواقع الإلكترونية بالشكل الذي تتم عليه هذه الأيام ما هو إلا إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، ومحاولة يائسة لإطفاء الشمس بالنفخ عليها.

وحتى نفهم القاعدة بشكل أفضل، دعونا نتأمل بالطريقة التي تتعامل بها الدول المتقدمة مع وسائل الإعلام المعادية لها، إنها تستخدم أساليب غاية في العصرية والتطور، ولا تلجأ بالمطلق إلى الأساليب التقليدية التي أثبت التاريخ عقمها، ومن هذه الأساليب، كما هو معلوم: ضخ المعلومات وتعزيزها بالشواهد والإثباتات والحقائق، والعمل على دحض وجهة النظر الأخرى بالمنطق والأدلة، والعمل على احتواء المواقف من خلال صرف النظر إلى قضايا أخرى يتم تسويقها على أنها الأهم لمصالح الناس، وغير ذلك من الأساليب التي يدركها المتخصصون.

اليوم، لا يمكن أن تواجه المعلومات إلا بالمعلومات، ولا يمكن دحض الآراء إلا بالحجة والمنطق، أما أساليب تكميم الأفواه، فقد ولّت إلى غير رجعة.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد