تتعالى الأصوات هذه الأيام في مدينة الموصل من قِبَل مواطنين وناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي، محتجة ومستاءة من بعض الإجراءات والمواقف التي تصدر عن جهات أمنية مسؤولة عن المناطق التي تم تحريرها من سلطة تنظيم الخلافة (داعش).
مواقف أقل ما يقال عنها إنها تثير الشبهات وتطرح أكثر من علامة استفهام وتعجب، بل تبعث على القلق إزاء ما يمكن أن ينتظر أهالي محافظة نينوى في المستقبل.
فهل من تفسير مقنع لإطلاق سراح شخص عليه الكثير من الدلائل التي تؤكد ضلوعه وتورطه بالإرهاب وانتماءه لتنظيم داعش بعد شهر على اعتقاله، من بعد أن كانت أصوات عديدة قد ارتفعت في المدينة على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي مطالبة القوات الأمنية بالقبض عليه!
الأنكى من ذلك عندما يؤكد أحد الصحفيين والناشطين الموصليين عبر تعليق كتبه على صفحته في الفيس بوك قائلاً: "إن عملية إطلاق سراح هذا الداعشي قد تمت بصفقة ثمنها 45 ألف دولار".
هذا الحدث ليس استثناءً في سياق ما يجري من أحداث غامضة على هذه الصورة في مدينة الموصل، فهناك الكثير الذي يتم تداوله على ألسِنة المواطنين من أن هناك صفقات مريبة تجري في الخفاء بين عناصر من الأجهزة الأمنية وبعض الدواعش الذين سقطوا في قبضتها.
سياق الأحداث يذكرنا بما كان يجري في الموصل قبل سقوطها في العاشر من يونيو/حزيران 2014 مما أدى إلى انهيار الأمن فيها وهيمنة عصابات الإرهابيين عليها، لعل أبرزها ما حدث قبل سقوطها بأسبوع، عندما أعلن محافظ المدينة الأسبق (أثيل النجيفي)لوسائل الإعلام عن هروب أحد أبرز قادة تنظيم داعش من سجن خاضع للقيادة العسكرية في الموصل، وأن ثمن عملية تسهيل الهروب بلغ 50 ألف دولار، وبعد أسبوع من عملية الهروب سقطت المدينة تحت سلطة داعش.
إذن نحن أمام سيناريو يعاد إنتاجه من قِبَل عناصر محسوبة على القوى الأمنية العراقية، ارتضت أن تقدم مصلحتها الشخصية على أمن البلاد، هذا السلوك يتكامل في خطورته مع ما أقدم عليه (حاكم الزاملي)، رئيس لجنة الأمن النيابية في البرلمان العراقي في الأسبوع الماضي، عندما حاول أن يبرر فشله في المهمة الموكلة إليه عندما فشل في إيقاف هجمات إرهابية اجتاحت منطقة الكرادة وسط بغداد، وأوقعت خسائر كبيرة في الأرواح، فأقدم على عملية تلفيق للحقائق عندما أعلن بعد الانفجار مباشرة بأن الانتحاري جاء من منطقة القائم الحدودية مع سوريا، والتابعة إدارياً لمحافظة الأنبار، علماً بأن الذي يأتي من القائم إلى بغداد يتوجب عليه أن يتوقف أمام أكثر من ثلاثين سيطرة حكومية تابعة للجيش، إضافة إلى مفارز أمنية تابعة لميليشيا الحشد الشعبي.
فكيف يمكن للانتحاري أن يجتاز كل هذه السيطرات من غير أن يتم اكتشافه إلا إذا كانت جميع العناصر الأمنية المتواجدة في السيطرات غارقة في الفساد، هذا إذا سلمنا جدلاً بأن السيارة المفخخة قد جاءت من أقصى غرب العراق؟
أي شخص عاقل لن يقتنع بما أراد الزاملي تسويقه من تضليل، ولم يكتفِ بذلك حيث أضاف كذبة أخرى عندما نشر مقطعاً فيديو قصيراً مفبركاً على وسائل التواصل الاجتماعي يُظهر عناصر من القوات الأمنية في إحدى السيطرات الخارجية، وهي تلقي القبض على سائق سيارة خصوصي ينتظر دوره للمرور أمام نقطة سيطرة تابعة للجيش، فإذا بهم يفتحون باب سيارته ويتم سحبه إلى خارجها، مع سيل من الإهانات والضرب بالأيدي والأرجل تنهال عليه، وبدا واضحاً على الرجل هول المفاجأة إزاء ما يتعرض له، وبعد هذا المشهد مباشرة نشاهد دخاناً يتصاعد من مكان بعيد على أثر انفجار لم يتضح مصدره.
أمام هذا المقطع لا يحتاج المشاهد إلى فطنة ليكتشف عملية التلفيق المونتاجية التي خضع لها شريط الفيديو الذي تم تركيبه من مقطعين لخداع المشاهد على أنهما حدث واحد.
واضح أن السيد الزاملي سعى من وراء هذا الشريط إلى أن يُقدِّم كبش فداء لكي يهدئ نفوس العراقيين بعد أن بدأت تغلي نتيجة عجز القوات الأمنية عن تحجيم قدرات قوى الإرهاب، وسعى أيضاً إلى أن يمنح جريمة التفجير بعداً طائفياً على اعتبار أن سكان منطقة القائم من العرب السّنة، إلا أن النتائج جاءت على عكس ما خطط له؛ حيث تلقى موجة شعبية عارمة من السخرية على صفحات التواصل الاجتماعي إضافة إلى أن العديد من الأصوات البرلمانية انتقدته تحت قبة البرلمان.
هذه الوقائع تشير إلى أن العراق أمسى تحت رحمة قيادات أمنية لا يمتلكون المؤهلات الفنية التي تجعلهم قادرين على تولّي مسؤولية أمن دائرة حكومية صغيرة وليس بلداً كبيراً مثل العراق.
هنا لا بد لنا أن نسرد واقعة تناولتها الصحافة العراقية اعتماداً على تقرير نشرته الشرطة البريطانية خلال الأسابيع القليلة الماضية، وعندما نتأمل ما جاء في التقرير من وقائع سنكتشف أسباب ما يجري من خروقات أمنية أوقعت العديد من الضحايا من المدنيين ولربما يكشف لنا هذا التقرير جانباً من الحقيقة وليس كلها.
يشير التقرير إلى أن العراق أنفق ما يقرب من (80) مليون دولار على (600) طالب كانوا يدرسون في بريطانيا تخصصاً دقيقاً عنوانه (الاستخبارات وكشف الجريمة قبل وقوعها)، ومدة الدراسة في هذه الدورة الرفيعة المستوى ثلاث سنوات؛ ليمنح بعدها المتخرج شهادة "بكالوريوس" في العلوم الاستخباراتية والأمنية، وكان من شروط الدورة التي وضعتها الجهات البريطانية المشرفة عليها ألا يتجاوز عمر طالب البعثة (20) عاماً لأجل أن يستوعب الدروس بشكل سريع وسلس، إلا إن وزارة الداخلية العراقية لم تقتنع بهذا الشرط، فألغته من جانبها وأرسلت طلاباً تجاوزت أعمارهم سن الخمسين، كما ألغت أيضا شرط أن يكون الطالب على دراية جيدة باللغة الإنكليزية لفظاً وكتابةً، وعلى أن يكمل دورة بهذا الخصوص في بريطانيا، واعتمدت على مترجمين خصصتم لهذه المهمة، بالنتيجة أرسلت الوزارة (600) متدرب وصلوا مرحلة الكهولة وبرفقتهم جميع أفراد عائلاتهم، حتى وصل العدد الكلي إلى (3000) شخص؛ ليصل حجم الإنفاق على البعثة إلى (80) مليون دولار، هذا يعني أن المحاصصة الطائفية في العراق الجديد لا بد أن تفرض حضورها وشروطها في كل صغيرة وكبيرة، حتى لو كان ذلك على حساب أمن البلاد وضياع ثرواتها.
لا بد هنا أن نتوقف أمام آخر الإحصائيات التي كانت قد خرجت بها إحدى المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة؛ حيث أشارت إلى أن عدد الذين سقطوا في العراق جراء العمليات الإرهابية خلال الأعوام الثلاثة عشر الماضية وصل إلى (3) ملايين مواطن.
وبقدر ما يتحمل الإرهابي مسؤولية هذا الموت الكارثي تتحمل الحكومات العراقية المتعاقبة منذ ثلاثة عشر عاماً هذه المسؤولية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.