درهم واحد

اتصلت بي إحدى المنظمات الألمانية من أجل تقديم خدماتي الاستشارية لصالح مشروع للقادة الشباب في المغرب، اتفقنا على المقابل المادي، وقعت العقد، ونسخاً كثيرة منه، فقد ألفت أن العمل مع الألمان يعني توقيع عقد مفصل، والكثير من النسخ منه، أنهيت الخدمات التي كانت مطلوبة مني، بعثت لهم بالفاتورة موقعة ومختومة، وبعد أيام تلقيت اتصالاً هاتفياً يخبرني بأن الفاتورة رفضت.

عربي بوست
تم النشر: 2017/06/12 الساعة 04:11 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/06/12 الساعة 04:11 بتوقيت غرينتش

اتصلت بي إحدى المنظمات الألمانية من أجل تقديم خدماتي الاستشارية لصالح مشروع للقادة الشباب في المغرب، اتفقنا على المقابل المادي، وقعت العقد، ونسخاً كثيرة منه، فقد ألفت أن العمل مع الألمان يعني توقيع عقد مفصل، والكثير من النسخ منه، أنهيت الخدمات التي كانت مطلوبة مني، بعثت لهم بالفاتورة موقعة ومختومة، وبعد أيام تلقيت اتصالاً هاتفياً يخبرني بأن الفاتورة رفضت.

لم تكن أول مرة أتعامل فيها مع هذه المنظمة، حتى إنني خبرت طريقة عملهم، وبيروقراطيتهم الألمانية، تفاجأت بخبر رفض الفاتورة؛ لأجد المتصلة تقول لي إن المدير المالي للمنظمة قال إن هناك "فارقاً مالياً" بين ما جاء في العقد الذي أعدته المنظمة، وبين الفاتورة التي قدمتها لهم، وإن هذا الفارق المالي بلغ "درهماً مغربياً واحداً"، وإن هذا قد يتسبب في محاسبة المنظمة التي تعتمد في ميزانيتها على أموال دافعي الضرائب، وإن مراقبي المنظمة سيعتقدون أن مديرها المالي قد منحني "درهماً مغربياً واحداً" فائضاً عن المبلغ الذي طلبت لقاء خدماتي لهم، وإن هذا التصرف سيتسبب لهم في مشاكل قانونية، وقد يتسبب في إقالة مسيّري المنظمة؛ لذلك الحل هو في إعادة صياغة الفاتورة والعقد من جديد.

ضحكت كثيراً يومها، ولست أدري إن كنت أضحك على الألمان أم على بني شعبي، قرأت يوماً أن الألمان بخلاء، لكن تعاملي مع منظماتهم الدولية، ومؤسساتهم الإعلامية جعلني أقف على حذرهم الشديد في التعامل مع أموال دافعي الضرائب، حتى إنني أذكر يوماً كنت في تونس أشارك في ملتقى بين إعلاميي ألمانيا ودول المغرب، وتحدث أحد المحاضرين عن الشفافية بمقاييس ألمانية؛ إذ نشرت الحكومة على موقعها المبلغ الذي تكلفته وجبة عشاء عمل، يومها ضحكت، وقلت له: "أتمنى أن أعيش حتى أرى هذا الأمر في بلدي"، أجابني يقول: إن هذا ممكن، وسـأعيش حتى أراه في بلدي، وفعلاً عشته، وعشت لحظة الوزير الرباح ينشر تراخيص النقل البحري والبري والجوي والترابي، كانت حركة أريد بها ما أريد، كانت حركة بطابع وزير تابع لحزب إسلامي يفصل الفساد على مقاسه، لكنها لم تكن حركة تقوم على مقاييس ألمانية المواطن فيها مقدس.

جمعتني الصدفة يوماً بأحد معارفي من المغاربة، يقيم منذ عقود بألمانيا، كان الرجل يقتني مشترياته من أحد المحلات التجارية الكبرى، وكنت بنفس المحل، وحين أراد دفع ثمن ما اقتناه وجدت وجهه وقد اصفرّ، ويطلب من البائعة أن تمنحه "عشرة دريال لي بقات"، ارتبكت البائعة، واستغربت بدوري من طلبه، لكني تفهمت موقفه وإصراره على أن يحصل على كامل ما تبقى من الثمن الذي كلفته مشترياته، قال لي حين مدت إليه البائعة "عشرة دريال ديالو"، إن هذا حقه، ويجب أن يطالب به، لا أن يصمت وهو يرى أنه يتم الاستيلاء عليه، أو الاحتيال من أجل أخذه، أو حتى السهو عنه.

وهذا ما يجعل ألمانيا بلداً عظيماً، أن بها مواطناً لا يكتفي فقط بمنح صوته للمرشح الذي يريده أن ينوب عنه في إيصال صوته، بل يراقب هذا المرشح، ويحاسبه؛ لأنه يعرف أن صوته له قيمة، وليس قابلاً للبيع والشراء والمساومة.

منذ أربع سنوات، تلقيت دعوة من المستشار الإعلامي لسفير ألمانيا، ومعي تمت دعوة يونس بومهدي، مدير هيت راديو، وجهت لنا الدعوة للقاء فريق اللجنة البرلمانية الألمانية للإعلام، وللحديث لهم عن وضع الإعلام في بلدنا.

كان الفريق مكوناً من ممثلين لعدد من أحزاب البرلمان الألماني، وفي نهاية اللقاء، قالت رئيسة الفريق البرلماني الزائر إنها تريد منحنا هدية من ألمانيا تقدمها لنا باسم الفريق، فتحت حقيبة، وأخرجت منها شيئاً لُف في كيسين، أعطتني واحداً، وليونس بومهدي واحداً آخر، فتحت الهدية وأنا أحاول عدم الانفجار ضحكاً، كانت الهدية عبارة عن دب صغير جداً صنع من الجبس، طُلي باللون الأزرق، ورسمت عليه خريطة ألمانيا.

أول شيء تبادر إلى ذهني وقتها هو إخوتنا في الخليج، ونحن، والعرب، وكيف أنه يستحيل أن يقدموا شيئاً من هذا القبيل هدية، وأنهم يحرصون على تقديم هدايا قيمة وإن كانت من جيوب دافعي الضرائب.

سنة بعدها، سيتصل بي أحد الأصدقاء الفلسطينيين من جمعية دانماركية، ويطلب مني أن أرشح له صحفية امرأة لمرافقة ولية عهد الدنمارك، وقتها كان أحد المدعوين من النشطاء المرتزقة بحقوق الإنسان، وكنت أجهل عنه الكثير، حتى إن أعضاء حركة عشرين فبراير من أصحابه لاموني أنني لم أسألهم عنه، وإلا كانوا حذروني من امتهانه النصب والاحتيال والاسترزاق باسم النضال، والحقوق، كان قد تواصل معي يتوسل إلى أن أجد له فرصة عمل؛ لأنه حسب ما ادعاه يتم التضييق عليه من قبل "المخزن"، وكان من حظه أن صديقي من الدانمارك قد سألني أن أجد له شخصاً، فأقنعته بأن يأخذه في هذه المهمة رغم أنه كان يبحث عن صحفية امرأة، كان المبلغ الذي سيحصل عليه الناشط المدعي هو خمسمائة يورو في يوم من العمل؛ لأجده يتواصل معي مساء ذاك اليوم، ويقول لي: "لم أكن أعرف أن التي سأرافقها هي ولية عهد الدنمارك"، فسألته: "وفين هو المشكل؟"، ليجيبني: "بغيت الزيادة، ميمكنش نرافق ولية عهد بخمسمائة يورو"، ولأجيبه: "الشريف، هادي راها ولية عهد الدنمارك ماشي الخليج.. راها جايا بفلوسها، ماشي بفلوس الشعب ديالها".

للأسف لم يتعلم الفتى المدعي من الدرس، ومن شرف مرافقة ولية عهد بلد متقدم، فقد راح يدلي بتصريحات صحفية كاذبة يدعي فيها أنه تمت دعوته لمرافقة الأميرة، ولمناقشة قضايا الديمقراطية معها، بدل أن يتقي الله في نفسه، وفي حياة الكذب التي يعيشها وأمثاله، ويتعلم ويعلم صحبه كيف أن أميرة الدنمارك أتت في زيارة للمملكة على حسابها الخاص، وكيف أنها كانت في زيارتها تلك متقشفة، ولم تمد يدها إلى جيب دافعي الضرائب من أبناء شعبها، وإن كان الفتى المدعي رضي عن نفسه أن يطالب بالمزيد فقط لأنه اعتقد أنها لمجرد كونها أميرة فهو يسمح لها بأن تصرف ما بالجيب بدون أي رادع.

في السويد، اضطرت إحدى الوزيرات إلى تقديم استقالتها؛ لأنها دفعت ثمن بنزين السيارة من بطاقة الوزارة وليس من بطاقتها البنكية الخاصة، وهو ما اعتبر خيانة للأمانة التي وضعها الشعب السويدي في الوزيرة وفي شخص الحكومة.

أقرأ الخبر وأتذكر ما قلته للألماني ونحن في تونس: "أتمنى أن أعيش حتى أرى هذا يحدث في بلدي"، ورده عليّ وهو يقول: "ستعيشين وسترين ذاك اليوم"، وأتمنى أن يكون هذا اليوم بمقاييس ألمانية وليس بمقاييس سياسي، ولاؤه لنفسه أكثر من المواطن، ولا مقاييس سياسي، ولاؤه للحزب أكثر من الوطن.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد