قبل 6 أعوام وخلال اكتمال الانتفاضة الوطنية السورية السنة الأولى من عمرها، لم تكن هناك حاجة للتمييز بين مصطلحات "الانتفاضة" و"الثورة" و"المعارضة"؛ فكل منتفض وكل متظاهر محتجّ؛ وكل تنسيقية شبابية معلنة أو قيد الإنشاء والتفعيل؛ وكل جندي حر مقاتل مدافع؛ وكل ضابط أو ضابط صف ملتحق بصفوف الشعب؛ وكل مثقف وكاتب ومفكر ومناضل وطني يكتب ضد الاستبداد؛ وكل إعلامي أو صحفي يناصر خصوم النظام ويدعو إلى التغيير؛ وكل فرد من سكان المدن والريف؛ وكل ناشطة وناشط في صفوف الشعب؛ وكل مواطن سوري عربياً كان أم كردياً أم تركمانياً، أم مسلماً أم مسيحياً- يتمنى الخلاص وينشد الحرية.
نعم، كل واحد من هؤلاء كان يستحق أن يطلق عليه صفة الثائر اوالمعارض من دون حرج لأن الجميع التزموا بصدق وعفوية بالهدف الأساسي وهو اسقاط الاستبداد واجراء التغيير الديموقراطي السلمي.
ولأن كل هؤلاء مجتمعين، ولأسباب موضوعية وذاتية، قد لا تقتصر على الحالة السورية فقط؛ بل تنسحب على ظاهرة ثورات الربيع برمتها، المتسمة بالعفوية وعدم النضوج وقلة الخبرة، ولا مجال للدخول في صلبها الآن- نقول إنه قد فات على هؤلاء جميعاً، من الذين ذكرناهم أعلاه، جماعاتٍ وأفراداً، اتخاذ الحيطة والحذر، والمبادرة في تنظيم الصفوف، وتشكيل قيادة مركزية سياسية-عسكرية، وصياغة البرنامج الوطني الديمقراطي، ووضع الاستراتيجية الصلبة والتكتيك المرن؛ ما أصبحوا في مرمى شرور ومناورات الأحزاب الأيديولوجية التقليدية، الإسلامية منها والقومية والشيوعية، التي تسلقت وتسللت مع كل أجندتها الإقليمية الخارجية وإمكاناتها المادية التي وفرتها أنظمة أكثر استبداداً من نظام الأسد، ليس من أجل تحقيق أهداف الشعب السوري وثورته؛ بل في سبيل إجهاض أهم وأعظم ثورة وطنية ديمقراطية في موجات ثورات الربيع.
لم يمض عامان على الثورة حتى تتالت موجات أصحاب المصالح الخاصة من جماعات الإسلام السياسي وخدِمها من عناصر (ليبرالية وقومية وشيوعية)، ومن ثم الوافدين من صلب نظام البعث الحاكم؛ لتستولي على مقدراتها وتسطو على اسمها وتزيح كل الثوريين والمناضلين الشرفاء، وبالأخص نشطاء الجيش الحر الذي كان بمثابة العمود الفقري لها، ثم تم الانتقال إلى صيغة "المعارضة" السياسية متجسدةً فيما سمي "المجلس الوطني السوري"، ثم "الائتلاف" الذي شكّل المحاولة الأولى على طريق "أخونة" الثورة وأسلمتها مع كل ما يتطلب من تفاعل واندماج في خطط وبرامج النظامين القطري والتركي، اللذين شكّلا مرتكزاً مالياً وجغرافيّاً للانطلاق نحو الإمساك بدفة ثورات الربيع، وخصوصاً السورية منها، حصل ذلك أمام مرأى ومسمع وارتياح البلدان الأوروبية وأميركا والنظام العربي الرسمي.
بمرور الزمن ومع كل معاناة السوريين التي لا مثيل لها، تحولت "المعارضة" 'لى جزء مكمِّل للأطراف الإقليمية والدولية العاملة على "إدارة الأزمة"، وليس دعم الشعب السوري ومساعدة ثورته، وغادرت مواقع الثورة وأهدافها وشعاراتها؛ بل أصبحت وكيلة الأطراف الداعمة لها وممثلة لسياساتها. ومنذ قيام "الهيئة التفاوضية العليا" عقب مؤتمر الرياض، تحولت المعارضة إلى مؤسسة فنية شبه نظامية لا علاقة لها بالثورة والنضال الوطني، تتلقى أوامر السفر والمشاركة والانسحاب وطريقة الحديث وشكل ومضمون الخطاب السياسي والموقف، من عواصم معينة بالنظام العربي الرسمي.
منذ اتفاقية فيينا وما قبلها وفي كل مؤتمرات جنيف، التزمت "المعارضة"، بشكل ثابت، بوجوب الحفاظ على مؤسسات النظام العسكرية والأمنية والاقتصادية والسيادية، والاستعداد للعمل مع نظام الأسد في حكومة مشتركة أي -وبالتفسير الحقيقي- التخلي عن أهداف وشعارات الثورة، وكان عليها مكاشفة السوريين بهذه الاستدارة التراجعية المنحرفة وليس تضليلهم، أو الرجوع إلى الشعب من خلال مؤتمر وطني جامع لتقرير المصير ومواجهة المستجدات.
هذه "المعارضة" التي طرحت نفسها، نظرياً، كممثل شرعي وحيد للشعب والثورة، هي من يتحمل كل التراجعات العسكرية والإخفاقات السياسية، وهي المسؤولة عن تشتُّت تشكيلات "الجيش الحر" وسيطرة الإسلام السياسي على المقدرات وضياع القضية السورية وحتى المواجهات الدموية بين الفصائل العسكرية المحسوبة عليها، وأكثر من ذلك فإنها المسؤولة عن الإشكاليات التي رافقت أداء الفصائل العسكرية التي شاركت في اجتماعات أستانا، وهي من ضللت السوريين بتحويل المحتل الروسي من عدو إلى محاور ووسيط وشريك، فضلاً عن تحمُّلها وزر كل الخطايا والردات المضادة التي تحصل كل يوم إلى درجة فقدان الأمل من جانب معظم السوريين.
وما يتعلق بالكيانات السياسية والحزبية العاملة باسم المعارضة منذ 6 أعوام والتي ظهرت بمعزل عن الشرعيتين الشعبية والثورية وأغلقت الأبواب أمام الحراك الشبابي والوطنيين المستقلين وأخفقت في تحقيق أهداف الثورة وأية إنجازات وخطوات تُذكر وعجزت عن إجراء المراجعة النقدية عبر المؤتمر الوطني الجامع وكمثال: "المجلس السوري، والائتلاف، والمجلس الكردي"- فلن تعاد الروح إليها بتنصيب شخص محل آخر من الطينة ذاتها؛ فهي أحوج ما تكون إلى التغيير برنامجاً وقياداتٍ وسياساتٍ، ولا أعتقد أن "حفلات التسليم والتسلّم"، بالشكل المتبع، ستهم السوريين أو تجلب انتباههم أو تعيد إليهم أي بصيص من الأمل.
إزاء تلك الحقائق، ليس أمام الوطنيين والمثقفين وجميع أنصار الثورة السورية إلا مراجعة بالعمق لمفهوم "المعارضة"، وإيجاد صيغة أخرى لتسمية من كانوا يوماً ما من "المعارضة" وفي صفوف الثورة ولو بالكلام، وهل يجوز أن يكون "المعارض" غير مؤمن بأهداف الثورة وأقرب إلى النظام ووضع حد فاصل ونهائي لعملية التضليل الممنهجة الجارية منذ أعوام؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.