السّياسة في عمومها يمكن أن تعرّف بإيجاز عمليّ بأنّها احتراف عالٍ في تدبير وتسيير البلدان وتحلّ بالصّبر وبُعد النّظر ودقّة الاستشراف، ولذلك كانت فعلاً نُخبويّاً وميزة لا تتأتّى لعامّة النّاس ورعاعهم، ولا يستقيم تعاطيها إلاّ لمن يبرع في تذليل العقبات واجتياز المحَن وخلق مخارج الأزمات ودقّ أبواب دوائر المستحيل؛ لهذا يطلق على السّياسة عُرفاً أنّها فنّ الممكن أو حتّى فنّ المستحيل.
لكنّ الذي نراه عندنا من تفاعلات في المشهد السّياسي المحلّي لا يشير لا من قريب ولا من بعيد لحراك يمكن أن نطلق عليه فعلاً سياسيّاً، ولا نجد عموماً رجال سياسة فعليين، فضلاً عن انعدام رجال دولة قادرين على خلق ديناميكيّة سياسيّة فاعلة وتأسيس مشهد سياسي حقيقي، ولا وجود أيضاً لتحرّكات أو مبادرات ذات بُعد ومرجعيّة فكريّة سياسيّة يمكن أن تسدّ هذا الفراغ وتقطع مع الاعتباطيّة والغوغائيّة السّائدة.
فقط هو التعاطي الشّمولي مع الواقع والانشطارات الحزبيّة لتضارب مصالح أفرادها وتنطّع بعض الشّخوص لغاية المصلحة برصيد صفر أو ما يقاربه في الحقل السّياسي والعمل الحزبي المنظّم، يبيعون الكلام ملبّساً بالأوهام على قارعة حوانيت الإعلام اعتقاداً منهم أنّ الشّرعيّة تمرّ عبر الصّورة بعد أن ثبت تخلّفهم عن ناتج شرعيّة الصندوق الانتخابي أو لمواراة فوبيا الخسارة التي تتملّكهم وتلازمهم من قادم المحطّات، ولهذا فإنّهم وجدوا -حسب حدود أفهامهم- خلاصهم في إدمان الظهور الإعلامي، مستأنسين بمتابعة صفحات التواصل الاجتماعي لاستقراء ما يظنّونه خطأ أنّه رأي الشارع أو الرّأي العام.
هذا الانخفاض في التعاطي السّياسي ورعونة التفاعل زائد وعي جماهيري متّقد وخيبات أمل متتالية ولّد أزمات ثقة بين العمق الشعبي وكثير من هؤلاء الشّاغلين للمشهد السّياسي، سواء على مستوى الأحزاب أو الأشخاص، وخلق مللاً من السّياسة والسّياسيين الذين باتوا عنده في حكم الفشلة والنصّابين، وزاد هذا الحكم تعقيداً مع تلوّن بعض السّياسيين وانتقالهم من ضفّة إلى أخرى -بدافع المصلحة الذّاتية- تلوّن وتبديل مواقع تصحبه ضوضاء وشتائم وفضائح وتسريبات تقدح في مصداقيّة الصفّ الذي كان يُؤويه سابقاً وكان هو يدافع بشراسة عن توجّهاته.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.