الشعب التونسي يقود ثورة التأميم والحكومة تتلكَّأ

التأميم مصطلح عظيم، أعظم مما ذهب إليه أهل السياسة على مختلف مشاربهم وانتماءاتهم، التأميم أن يكون كل ما في الأرض وعليها للأمة، أن يكون نفط العراق لأهل موريتانيا وأن يكون غاز قطر لأهل اليمن، وأن لا تكون مقدرات الأرض فقط لهذا الشعب العربي بل للأجيال القادمة التي ستحاسبنا على إهدارنا للثروة

عربي بوست
تم النشر: 2017/05/20 الساعة 02:52 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/05/20 الساعة 02:52 بتوقيت غرينتش

عادة ما تلجأ الدول حديثة الاستقلال السياسي إلى تأميم القطاعات الحيوية للفكاك من الهيمنة الاقتصادية لمستعمر الأمس، وسواء اختارت الأنظمة الجديدة سياسة الخوصصة أو دعم القطاع العمومي فإن إلغاء العقود الاستعمارية شرط لا مناص منه لإرساء قواعد السيادة وسلوك درب التطور والتخلص من ربقة النفوذ الأجنبي، وقد ارتبطت خطوة التأميم بالثورة حتى تلازمتا فباتت الثورات التي لا تكون متبوعة بضم المقدرات إلى الأمة تعتبر في عرف التاريخ والمنطق مبتورة غير قابلة للحياة والاستمرار.

لغوياً يشير مصطلح التأميم إلى الأمة باعتبارها المالك الوحيد لمقدرات البلاد من ثروات ومصانع ضخمة وهو مصطلح معاكس للملكية الفردية مناقض لها، وإن كانت الثورة البلشفية في بدايات القرن الماضي قد حاربت أساساً الملكية الفردية وسعت لإلغائها فإن المكسيك تعتبر أول دولة كان التأميم فيها موجهاً أساساً ضد النفوذ الأجنبي في البلاد وليس ضد حقوق الأفراد في التملك، وقد قام الرئيس المكسيكي "لازارو كارديناس" سنة 1938 بطرد الشركات الأجنبية النفطية وإنشاء شركة وطنية للمحروقات ورغم الصعوبات الآنية التي عانت منها البلاد جراء توقف الإنتاج ومقاطعة أوروبا وأميركا لمنتوجات المكسيك إلا أن البلاد اليوم تعتبر من أهم مصدري النفط ومن القوى الاقتصادية الصاعدة، وكذلك حذت البرازيل حذو جارتها الجنوبية ورفعت شعار "النفط نفطنا" في خمسينيات القرن الماضي لتصبح الشركة الوطنية البرازيلية خامس أكبر شركة طاقة في العالم، ورغم انفتاح البرازيل مجدداً على الاستثمارات الأجنبية في هذا المجال إلا أن القانون يفرض أن تكون الشركة الوطنية "بيتروبراس" شريكاً لكل مستثمر وأن تكون هي المالك للحصة الأكبر.

في منطقة الخليج قاد رئيس الوزراء الإيراني الراحل "محمد مصدق" ثورة تأميم النفط في بلاده في خمسينيات القرن الماضي وبعد أن كانت إيران تجني أقل من عشرين بالمائة من عائداتها النفطية ويذهب الباقي إلى الشركات البريطانية أقدم محمد مصدق على إلغاء الامتيازات المقدمة للشركات الأجنبية وتأسيس شركة وطنية، ورغم الحملة الغربية التي أدت إلى الإطاحة بمصدق والزج به في غياهب السجون إلى أن فارق الحياة إلا أنه يعتبر اليوم باني الاستقلال الاقتصادي لإيران وواضع اللبنة الأولى لمناعتها الاقتصادية واستقلالها السياسي.
غير بعيد عن إيران كان لنا نحن العرب تجاربنا الرائدة في تأميم الثروة وبعض الشركات الكبرى على الطريقة المكسيكية أي استعادتها من قبضة الأجنبي من دون الاستهداف المباشر لحقوق الأفراد في التملك، وكان عبد الناصر سباقاً في خوض مغامرة التأميم فاتخذ سنة 56 قراراً صادماً للغرب بضم قناة السويس للأمة بعد رفض البنك الدولي والولايات المتحدة وبريطانيا تمويل مشروع السد العالي، ورغم الجنون الغربي والرد العسكري الصهيوني الفرنسي البريطاني إلا أن مصر تمسكت باختيارها وتعهدت فقط بتعويض الشركات الأجنبية من دون التنازل عن حقها في الإدارة الكاملة للشركة، ومما زاد في فورة جنون الغرب هو فشل الرهان على عدم القدرة المصرية على تشغيل القناة بعد أن تمكن المهندس المصري محمود يونس ورفاقه من تأمين عملها بنفس المردودية السابقة.

بعد التجربة المصرية الرائدة صدر في جمهورية العراق الوليدة آنذاك قانون 80 لسنة 1961 والقاضي بتحديد صلاحيات الشركات الأجنبية وهو ما مثل الخطوة الأساسية الأولى لتأميم النفط العراقي في سبعينيات القرن الماضي ليكون هذا الإنجاز في واقع الأمر مشتركاً بين الغريمين السياسيين الشيوعي عبدالكريم قاسم والقومي البعثي أحمد حسن البكر ونائبه القوي صدام حسين، ورغم التباين بين توجهات المعسكرين إلا أنهما تكاملا في إتمام مشروع استعادة ثروات البلاد ومحاربة الاستعمار الاقتصادي الذي مارسته بريطانيا بعد هزيمتها العسكرية على الأرض، وكانت قبل قانون 61 أكثر من 95 بالمائة من أراضي العراق هي أراضي إمتياز للشركات الأجنبية مما يعني أن شعب العراق لم يكن يحتكم على قطرة واحدة من نفط بلاده، وساهمت هذه الخطوة العملاقة في وضع اللبنة الأولى لإنشاء واحدة من أقوى الدول في المنطقة قبل أن يتكالب عليها القريب والغريب، ورغم أن النفط مثل في ما بعد أحد أهم أسباب احتلال العراق وتدميره إلا أن معركة الشعب مع لصوص الليل وزناته لم تنته بعد ولا نظنها تؤول لغيره في نهاية المطاف.
على خطى العراق سارت الجزائر في مفاوضات شاقة سنة 67 من أجل استرجاع ثروات البلاد إلى أن صدر قانون 11 أفريل 1971 الذي حدد أنشطة الشركات الأجنبية مما ساهم في إرساء أسس النهضة الصناعية التي عرفتها الجزائر في السنوات اللاحقة قبل أن تغرق في الفوضى والحرب الأهلية التي أوقفت قطار النمو المنطلق بسرعته القصوى نحو الدول المتقدمة.
الجار الجنوبي الشرقي للجزائر أي الجمهورية العربية الليبية كانت له تجربته الفريدة في استعادة ثرواته المنهوبة من قبل العالم المتحضر، فبعد ثورة الفاتح من سبتمبر دخلت البلاد معركة استعادة الصناعات النفطية لتعلن سنة 1973 التأميم الكامل، ولتدخل بذلك عصر المواجهة المستمرة مع الدول الاستعمارية والتي انتهت باستشهاد البدوي الثائر معمر القذافي بعد عقود أربعة من الصراع مع الإمبريالية وأذنابها من العرب ولتعود بلاده مجدداً إلى الاستعمار المباشر.

دول الخليج أو الإمارات والمملكات لم تعرف ثورة حقيقية في تاريخها الحديث واعتمدت في الصناعات النفطية على الشركات متعددة الجنسيات، ونضرب هنا مثلاً شركة أرامكو السعودية العملاقة التي لعب المستشرق البريطاني جون فيليبي دوراً فعالاً في تأسيسها بعد أن وضع اللبنة الأولى لقيام الملكة العربية السعودية، ويعتقد الكثيرون أن تأميم الشركة سنة 1988 كان فقط للاستهلاك الداخلي ولم يؤثر على حصص المستثمرين الأجانب ومن نتائج هذا التأميم الصوري أن تولى للمرة الأولى في تاريخ الشركة سعودي مهمة رئاستها التنفيذية، والغريب أن أرامكو لم تدرج مطلقاً ضمن بنود ميزانية الدولة السعودية بعكس بقية الشركات الحكومية وهذا يعني أن لها وضعاً قانونياً مبهماً وأن تأميمها جاء لامتصاص غضب العمال ولمسايرة موجة التأميم التي اجتاحت الوطن العربي ومع الحديث عن طرح أسهم الشركة للبيع تتخلى المملكة نهائياً عن أكبر الشركات لصالح الشريك الأميركي المتخفي. وإجمالاً لا يمكننا الحديث عن عمليات تأميم حصلت في ممالك الخليج حتى الآن.

في تونس عرفت البلاد في ستينيات القرن الماضي تجربة اشتراكية مستلهمة من الدول الإسكندنافية قادها النقابي أحمد بن صالح وكان من ثمارها تشييد عدد كبير من السدود المائية وتعميم التعليم والصحة في كامل ربوع البلاد لكنها اصطدمت بالطبقة الثرية التي رأت في التجربة خطراً محدقاً بامتيازاتها كما أثارت سخط فرنسا التي لم تنظر بعين الرضى لعملية تأميم أملاك المعمرين الفرنسيين واتهمت تونس بالوقوف خلف المعسكر الشيوعي مما أدى إلى إجهاض التجربة قبل بلوغها مرحلة تأميم ثروات البلاد كالنفط والملح. وبعد ثورة 2011 عاد الحلم من جديد ليساور أبناء الخضراء في نيل الاستقلال الاقتصادي وإلغاء العقود الاستعمارية وتأميم الملح والنفط وكلاهما يمثل ثروة طبيعية منهوبة منذ سنوات الاستعمار إلى اليوم، وتزداد الاحتجاجات الشعبية في مناطق الجنوب التونسي لتطالب في البدء بالتنمية والتشغيل ثم لتضع يدها على الجرح وتطالب بالتأميم، ونعتقد أن الزيارات الأخيرة لوفود الحكومة إلى المنطقة تهدف بالأساس إلى الالتفاف على هذا المطلب من خلال طرح مشاريع صغرى في المنطقة لكسب رضى الشباب الثائر، والثابت اليوم أن الحكومة العازمة على عدم إثارة الغضب الفرنسي والدولي باتخاذ قرار التأميم تجد نفسها أمام خطر تمدد الاحتجاجات إلى المدن الكبرى، ويقيناً يدرك المسؤولون في البلاد أن الشباب الذي أزاح نظام ما قبل الثورة قادر على طرد الشركات الأجنبية وتمزيق اتفاقيات الذل، ونعتقد أن أمام الحكام طريقاً واحداً ليسلكوه وهو إعلان التأميم وإلغاء كل العقود الاستعمارية والسير خلف الشعب الثائر وإلا فسيكونون والشركات الأجنبية هدف الحراك القادم.

التأميم مصطلح عظيم، أعظم مما ذهب إليه أهل السياسة على مختلف مشاربهم وانتماءاتهم، التأميم أن يكون كل ما في الأرض وعليها للأمة، أن يكون نفط العراق لأهل موريتانيا وأن يكون غاز قطر لأهل اليمن، وأن لا تكون مقدرات الأرض فقط لهذا الشعب العربي بل للأجيال القادمة التي ستحاسبنا على إهدارنا للثروة وعلى عدم توفير أسباب النجاح لها، إن التأميم في مفهومه الأرقى والأجمل أن تكون الثروة عابرة للحدود وللزمن وهو هدف يستحق خوض مئات الحروب من أجله وتقديم القرابين من طرابلس إلى بغداد.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد