نحن العاجزون

صوت رجل سوري باكٍ، يترحم على شهداء الزبداني ومضايا، هو التسجيل الذي انتشر بين الصحفيين ومن ثم بين السوريين، بعنوان "لحظة وصول أهل الزبداني إلى الراشدية"، والبطل الحقيقي هو من يستطيع أن يكمل سماع التسجيل، كم نحن عاجزون.

عربي بوست
تم النشر: 2017/05/03 الساعة 02:17 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/05/03 الساعة 02:17 بتوقيت غرينتش

"وين صرتوا محمد؟"
نحن لسّه علقانين، وخايفين من أفعال انتقامية.
"شو صار معكن عبد الوهاب؟"
ادعوا لنا..

صوت رجل سوري باكٍ، يترحم على شهداء الزبداني ومضايا، هو التسجيل الذي انتشر بين الصحفيين ومن ثم بين السوريين، بعنوان "لحظة وصول أهل الزبداني إلى الراشدية"، والبطل الحقيقي هو من يستطيع أن يكمل سماع التسجيل، كم نحن عاجزون.

محمد، عبد الوهاب، أبو الفوارس، وغيرهم كثر، الأصدقاء والإخوة من مضايا والزبداني، ثمة أم وأب وطفل هناك في الباصات، يجلسون في مقاعدهم، يسمعون بالتفجير الهائل الذي حدث في باصات الطرف المقابل التي تنقل سكان كفريا والفوعة، لا يمكنهم أن يحددوا حقيقة شعورهم؛ خوف وحزن، ترقب ورعب يوقف القلب، وأما نحن الجالسون بعيداً عن تلك الباصات، نشعر في كل لحظة كم نحن عاجزون، ونرفع أيدينا للسماء باستسلام تام "اللهم أوصلهم بالسلامة"، ولا يمكننا أن نفعل شيئاً سوى انتظار جرس تنبيه رسالة الواتساب، لعل محمد يرسل صوته لتهدئتنا.

تهدئتنا؟ مَن نحن اليوم؟ نحن أبطال صور تتبناها وكالات عالمية، نحفظها وننشرها ونتنادى لنضع اسم "سوريا" بجانبها؛ لنصل إلى العالم، نفرح يوم تتصدر صورة لنا صفحة وكالة أنباء عالمية، نشعر بالأمل، "إنهم يسمعوننا، المجتمع الدولي يشعر بنا"، ثم نرى أن الحيتان الدولية تلعب بنا، هذا يريد حرباً خارجية ليداري فساد سلطته، وذاك يريد إثباتاً أنه رجل القرارات على عكس رئيسه السابق، وأولئك يريدون فقط النجاة بعروشهم، ونحن ما زلنا نسمع ونرى.

أنا امرأة سورية، أُم سورية، أخت سورية، زوجة سورية، أشيح بنظري عن صور سوريا، وأغمض عيني ابنتي إذا ما مر مشهد من سوريا، وأرسلها إلى غرفتها عندما أجترع سموم الأخبار، وعندما تسألني عن سبب بكائي، أصمت فتفهم هي ما لم أقُله، هذا الجيل جبار، وأقول لنفسي: "ابنتي، وأولاد إخوتي، وأولاد السوريين سيحفظون اسم سوريا بعد سنوات".

نحن العاجزون اليوم، نتفنن بابتكار الألقاب التي نشعر أنها تصف جزءاً من وحشية طاغية القصر الجمهوري، ونتحايل على جراحنا ببعض السخرية، فيصل تسجيل من الزبداني؛ ليصفع قلوبنا، ويعيدنا إلى الواقع "جيش الفتح وقطر اقتسموا الغنائم، والنظام تلاعب بمؤيديه ففجّر باصاتهم في مناطقهم"، إننا بضائع في سوق متوحشة، الفرق أننا ننزف دماً ودمعاً، وهم يحصدون مالاً وسلطة وشهرة.

نحن العاجزون، نكفر عدة مرات في اليوم، ونستغفر عشرات المرات، نبكي أثناء الصلاة، ونضحك من نكتة تأتينا من مهجري حمص ومضايا والزبداني، ونمسك قلوبنا بأيدينا كلما مشى الباص الأخضر كيلومتراً واحداً.

نحن العاجزون، نصدر بيانات، ونتواصل مع منظمات أوروبية؛ لنحصل على تمويل لمؤسساتنا الخلبية، ونتصدر المشهد السياسي بوفد للتفاوض، فتتحول حياتنا إلى الهرولة من طيارة لأخرى، ومن بلد لآخر، ونضحك في سرنا لفوزنا بدعم فصيل أو كيان سياسي، وحصولنا على مقعد بجانب المستفيدين وأعمار بعضنا لم تتخطَّ الـ26 عاماً.

نحن العاجزون، ندَّعي أننا أصحاب كلمة حرة، ولكن رب عملنا يروّج لجيش الفتح فنغلق أفواهنا عن انتقادهم، والمنظمة التي تعنى بالنساء تفضل أن نكون علمانيات، فنسرق بعض الجمل من هنا وهناك، ونمتشق سلاح الثقافة والعلمانية، وإذا ما سألتنا ابنتنا ما معنى العلمانية ننهرها "هالحكي للكبار"، وذاك المجلس الذي يعلم أولادنا في مخيم اللجوء، يريدهم أولاً أن يتعلموا الفرق بين السنة والروافض، فنبتلع ديننا مع دموعنا، أليس أهون من أن يعلمهم أولئك الفرق بين النواصب والشيعة؛ نحن العاجزون لا نعرف عن العلمانية إلا بمقدار، ما يعرف أولئك الإسلاميون الذين يبيعون أرضنا عن الإسلام.

نحن العاجزون، نعرف اللصوص اسماً ولا نعلنهم، ونراقب الوصولي الذي حجز مقعده على المحطات التلفزيونية، ولكننا نضع له اللايك، ونشتم المتحدثين باسمنا ونتقرب منهم، ندرك جيداً أن برامج الحوار هي صراخ وزعيق، لكننا ننتظرها؛ لكي نشتم المتحاورين؛ نعلم أن صاحب آلاف اللايكات هذا صعد على تكسير سوريتنا، وبيع أحزاننا، والتجارة بشهداء عائلته، لكننا نضع له اللايك ونشارك كلامه، بل نخوض معه في الوعيد والترهيب، ثم نحصي شهداءنا بين الابتسامات والبكاء، والجبن والبيانات، والخوف والعجز.

آلامنا ودماؤنا وعجزنا، طوائفنا وعروقنا ومواقفنا وأفكارنا، وحتى كلماتنا، صارت سوقاً مربحة للجميع، سواء تتكلموا باسمنا أو ضدنا، لقد أصبحوا محترفين، يعلمون كيف يكون عنوان البرنامج أو المقال جذاباً مغرياً، لا يهمهم المستوى الأخلاقي أو الوطني، طالما أننا نتابعهم.

نحن العاجزون، لا نزال ننتظر معجزة إلهية، وندرك أن زمن المعجزات انتهى مع الأنبياء، ولكن العجز لا يترك مساحة لحياتنا إلا في ذلك الوهم "معجزة إلهية في زمن القتل والموت"، أو ساحات الفيسبوك وبرامج الفضائيات لعلها تفرغ من غضبنا قليلاً.

هل كُتب علينا هذا العجز فوق الألم والدم والدموع لأننا نحن؟ أم أنها سُنة التاريخ أن نعجز ونُخدع ونَخدع، أن نُبكى ونبكي؟ ماذا يفعل بنو الإنسان في الدول القوية وهم يروننا بدمنا ودموعنا؟ قالوا لنا "نحن آسفون، نرى دموعكم ودماءكم ممتزجة، لكننا نسمع أصواتكم متفرقة تدعو لألف زعيم ودين وطائفة وجماعة وعِرق، فأيكم نسمع أو نصدق؟"، ثم يذهب بنو الإنسان في الغرب لمشاكلهم، فغضبهم كبير، لم ينزف بعد ولم يبكِ، لكنه يرفع للسلطة الديمقراطية عنده من سيبدأ بفتق الجروح والآلام، لكن بعد أن تجف دماؤنا.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد