طفلة “شاتليه”

ولكنّها ليست من الغجر الروم الذين يتقاسمون فيما بينهم النقاط الاستراتيجية للتسوّل في شوارع شاتليه، فهي لا تتكلّم لغتهم، ولا حتّى اللغة الفرنسية بلهجتهم، بل تتكلّم لغتك الأمّ أنت، نعم أنت، وكأنّها تخاطبك أنت بالتحديد من بين كلّ هذه الجموع.

عربي بوست
تم النشر: 2017/04/25 الساعة 03:02 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/04/25 الساعة 03:02 بتوقيت غرينتش

الزمان: السبت 8 أبريل/نيسان 2017، الساعة السابعة والنصف مساء، أي ساعة واحدة قبل غروب الشمس.
المكان: قلب باريس، حي "شاتليه" التجاري؛ حيث توجد محطّة المترو المركزية في العاصمة الفرنسية، تحديداً: تقاطع شارعي "ريفولي" و"سان دوني" الرئيسيّين.

المكان مزدحم بالمارّة، تطغى الألوان الزاهية على ملابسهم، يحملون ستراتهم بأيديهم، فقد فاجأهم هذا اليوم الربيعي المشمس بارتفاع ملحوظ في درجات الحرارة، لا سيّما في فترة بعد الظهر، وذلك لأوّل مرّة منذ انتهاء فصل الشتاء.

ها أنت تمشي بين أناس من جميع الفئات العمرية، يأتون إلى "شاتليه" فرادى وزرافات من كلّ أحياء العاصمة، ومن ضواحيها، منهم من جاء للتنزّه، ومنهم من قصد محلّات الألبسة في شارع ريفولي للتسوّق، ومنهم من قدم للقاء حبيب أو قريب أو صديق.

ها أنت تمرّ بين حانات تعبق بقهقهات تتعالى فوق أكواب ضخمة من الجعة، وبين مقاه عادت لتتمدّد بطاولاتها على الأرصفة، النادلون يحاولون شقّ طريقهم بين الكراسي التي تعجّ بالروّاد، والبائعون في مطاعم الوجبات السريعة يغرقون في طلبات الزبائن المتجمهرين على الرصيف أمامهم.

أوراق تلتفّ بسرعة قياسية حول سندويشات الكباب، والشاورما، والفلافل، والبانيني الناجي من بين فكّي سخّانة، وقطع البيتزا على أنواعها، ومحارم تعانق خصر الكريب التي تسيح منها الشوكولاتة، أو حتّى مناقيش الصاج التي تفوح منها رائحة الزعتر.

ها أنت تسير بسرعة بين جماهير الاستهلاك التجاري، تركب أمواجها، فتحملك في هذا المعبد الضخم وغير المسقوف للسلع والخدمات، تحاول ألّا تعرقل سيرها، فتلقي نظرة سريعة على واجهات المحلّات وعلى الأسعار دون أن تتوقّف، متلافياً الاحتكاك بكتف من هنا، أو الاصطدام بردف من هناك.

"يا ودود يا ودود، يا ذا العرش المجيد، يا فعّال لما يريد، ما لنا غيرك يا اللّه"!

صوت رفيع ناعم، يحاول مغالبة ضعفه للارتفاع فوق ضجيج المارّة والسيارات، يصفعك بقوّة الضاد، يفاجئك، يباغتك، يخترق جدار قلبك قبل أن يبلغ أذنيك، يعصف في وجدانك، يدفعك، يهزّك، يسرقك من شرودك الذهني، يخرجك من تأمّلاتك الاستهلاكية، فتتوقّف دون أن تستوعب ما يحدث لك، غير آبه لا بكتف من هنا، ولا بردف من هناك، محاولاً أن تتحرّى عن مصدر الصوت.

"يا ودود يا ودود، يا ذا العرش المجيد، يا فعّال لما يريد، ما لنا غيرك يا اللّه"!

أصبح الصوت وراءك، تلتفت بسرعة، فترى طفلة صغيرة، تقف على جانب الرصيف، قرب واجهة أحد المحلّات المشهورة للألبسة، على رأسها قبّعة من الصوف، تنسدل من تحتها ضفائر وشعيرات متطايرة، تنطّ وتلعب، تلوّح بقطعة من الكرتون وكأنّها تلوّح بطائرة ورقية، قطعة من الكرتون كتب عليها بعض الأحرف بالإنكليزية طلباً للمساعدة المالية، تعيد دعاءها دون توقّف، للمرّة الثالثة على مسمعك.

ولكنّها ليست من الغجر الروم الذين يتقاسمون فيما بينهم النقاط الاستراتيجية للتسوّل في شوارع شاتليه، فهي لا تتكلّم لغتهم، ولا حتّى اللغة الفرنسية بلهجتهم، بل تتكلّم لغتك الأمّ أنت، نعم أنت، وكأنّها تخاطبك أنت بالتحديد من بين كلّ هذه الجموع.

فها هي تلاحظ أنّك توقّفت، أنّك الوحيد الذي توقّف من بين كلّ هؤلاء البشر، وأنّك تنظر إليها، فتنظر بدورها في عينيك، مستغربة، متوجّسة، وكأنّها أدركت أنّك تفهم ما تقول هي، وكأنّك باغتّها بفهمك لما تردّده، وكأنّها كانت قد قطعت الأمل في أن يفهم أحد من كلّ هؤلاء المارة ما تقوله أو أن يلتفت إليها.

تثنيها نظراتها عن التلويح بقطعة الكرتون، ولكن ليس عن تكرار دعائها.

"يا ودود يا ودود، يا ذا العرش المجيد، يا فعّال لما يريد، ما لنا غيرك يا اللّه"!

تردّده بتؤدة، مع التشديد وإطالة المدّة عند القافية، بنغمة شبه موسيقية، تذكّرك بنغمة مدرّسات الحضانة أو الابتدائي في التحفيظ، أي بطريقتهنّ في تهجئة جملة أمام الصفّ؛ كي يردّد التلامذة من بعد ذلك مباشرة ما قالته المعلّمة.

ما هي إلّا لحظات حتّى تبدأ بالعودة إلى رشدك وفهم ما يحصل، إنّه دعاء المكروب، نعم إنّه الدعاء الذي أصبح أيضاً مرادفاً للثورة السورية، الدعاء الذي صدحت به حناجر المتظاهرين في السنين الأولى للثورة واعتمدته كنشيد – ولو غير رسمي – لها. ولكن متى تعلّمته هذه الطفلة؟ فعلى أبعد تقدير، عمرها من عمر الثورة، إن لم يكن أقلّ من ذلك.

نعم، إنّه دعاء المكروب، يرافق هذه الطفلة حتّى أثناء لعبها، فهي لا تنشد أغاني الأطفال عندما تلهو، كما يفعل الأولاد في سنّها، بل تتوجّه بالكلام مباشرة إلى اللّه وحده، ربّما لأنّ لا أحد يفهمها من البشر في بحر المارّة الذي تغرق فيه؛ هي تتضرّع للّه تعالى، فلا ملجأ لها سواه في خضمّ عبثيّة التعارض التي تجسّدها عزلتها في وسط العالم الذي – للمفارقة – يحيط بها، وكأنّها في قلب عالم أطرش وأخرس.

على الأرجح، هذا كل ما تعلّمته في هذه الدنيا من أناشيد وأغانٍ، فهي بنت الثورة السورية، هي صوت الثورة، هي أنين الثورة، الوحيد في غربته، اليافع في براءته، الحنون رغم كلّ المآسي، لا تعرف سوى أن تتوكل على الله، فهو حسبها في هذا العالم الموحش الذي لا يسمعها، وكفى بالله وكيلاً.

ها أنت تعود أدراجك قليلاً، علّك ترى الصورة كاملة، فتشاهد بالقرب من هذه الطفلة، على الجهة الأخرى من زاوية المحلّ الواقع عند تقاطع شارعي ريفولي وسان دوني، بطّانيّة من الصوف البنّي تغطّي – رغم الشوب – سيّدة محجّبة وطفل على رأسه قبّعة شبيهة بالقبّعة التي تعتمرها أخته المنشدة، وكأنّ الإحساس ببرد الغربة يلازمهما، تتأمّلهما وقد افترشا أرض الرصيف، ووضعت الأم أمامها قطعة أخرى من الكرتون، عليها بعض الكلمات بالإنكليزية، تتحدّث عن عائلة سورية هربت من الحرب، وهي الآن بحاجة إلى مساعدة.

ها أنت تنظر في وجه الأمّ، تسند رأسها بيدها، وتصفن شاردة، فتتلألأ أمامك كلّ هموم الدنيا في هذه النظرة البعيدة، هي نظرة حزن، ولوعة، وأسى، ويأس، وانكسار، وقلق، وخوف، هو وجه يعتريه الوجوم، وذاك السكوت الرهيب، وجه لا يفهمه جيّداً إلّا من عاش الحرب وويلاتها.

بماذا علّها تفكّر؟ بزوجها يا ترى؟ أين هو؟ هل هو في العمل؟ هل هو يبحث عن عمل؟ هل هو موجود، أم هل قضى في سوريا، أم في البحر أثناء رحلة اللجوء إلى أوروبا؟ هل تفكّر بمن تركتهم في سوريا، بذويها الذين شرّدتهم الحرب إلى أصقاع العالم، بأمّها، بأبيها، ببيتها، بأرضها، بالربيع وياسمينه في بلدها؟ كم من ويلات عاشتها هذه العائلة كي تصل إلى خلاص ليس كالخلاص؟ كم من مرّة رأت هاتان العينان فيها الموت في رحلة الهروب من البراميل المتفجّرة والأسلحة الكيماوية، في رحلة الهروب من أرضها التي لم تعد تؤويها للوصول إلى أرض ضاقت بما رحبت.. إلى رصيف شاتليه؟

ها أنت تتقدّم من هذه السيّدة وفي يدك ما تيسّر من المال الذي كان يتنعّم بأنانية دفء جيبك، تمدّ يدك نحوها، ولكنّها لا تراك، فهي ما زالت تسترسل في صفناتها، تقترب منها أكثر علّك تخرجها من استرسالها الذهني، فتجفل وتتفاجأ ويعتريها الوجل، وكأنّها لم تتوقّع المال، فتخرج من فمها بعفوية بعض الكلمات باللغة التي تجيدها: "اللّه يبارك فيك"، وذلك حتّى قبل أن تنظر في وجهك كي تعلم إن كنت من أبناء العرب أم لا، ثمّ تعاجلك بدعاء آخر وأنت تهمّ بالرحيل: "اللّه يسهّل أمرك".

ها أنت تبتعد بخطى حثيثة، كي لا تتأخّر عن موعدك، كي تعود إلى همومك التي ليست هموماً، كي تعود إلى سخافة حياتك اليومية، كي تلاقي دفء أنانيتك من جديد.

ها أنت تهرب من نفسك، من عجزك، تهرب من الواقع، كي تعود إلى عالمك الافتراضي، وتختبئ من جديد وراء شاشاته؛ كي تستمع مرّة أخرى إلى النقاشات العقيمة، إلى نعيق الخائفين من "خطر اللاجئين"، إلى حقارة المدافعين عن نظام مجرم، إلى نفاق ناكري المجازر، إلى تباكيهم على سيادة لم تدنّسها بنظرهم كلّ جيوش وميليشيات العالم الداعمة للنظام، ولكن دنّسها 59 صاروخاً سقطت البارحة، لأوّل مرّة منذ بدء الثورة، على قاعدة جوية إجراميّة ودمّروها.

ها أنت تبتعد، وتبتعد، وفي أذنيك ما زال يتردّد صدى صوت طفلة شاتليه التي لا تكلّ ولا تملّ من ترداد دعائها.

"يا ودود يا ودود، يا ذا العرش المجيد، يا فعّال لما يريد، ما لنا غيرك يا اللّه"!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد