الأحزاب السياسية المسيطرة على الحكم والإدارة في العراق تعيد تسويق نفسها عسكرياً وسياسياً وإعلامياً، من خلال فضائح ونشر غسيل الآخر وصحافة صفراء واسعة الانتشار والتأثير، متناقضة الرسائل وفي اتجاهات غير محددة، هذا التسويق يأتي في سياق تنافس إقليمي بين إيران وحلفائها من جهة وتركيا والخليج وحلفائهما من جهة أخرى، لتعزيز سلطاتهم في العراق بالتعاون مع حلفائهم ووكلائهم بالداخل.
حالة المحافظة على مسمى الدولة ومؤسساتها تقتضي اعتبار مصلحة الشعب قبل كل شيء، فالسياسي المعارض بأي نوع من أنواع المعارضة السلمية خير من الموالي للدولة وهو فاسد، في هذه الحالة هو كمعول هدم لمؤسسات الدولة وإن كان موالياً لها سياسياً.
ومصلحة الشعب هي أكبر من مصلحة الحاكم وحزبه، فمن أكرم شعبه أكرمه التاريخ، ومن أهانه أهانه الشعب والتاريخ، وإن طال زمانه إلى حين، والحوادث شاهدة على ذلك.
مواقف الأحزاب العراقية الحاكمة معظمها تشكلت مع الوقت في المهجر وفي دول الجوار؛ لذلك هي تحاول أن تفرض رأيها وهي تعاني من مشاكل تناقضها مع ما تؤمن به من ثوابت الوطن والمواطنة، والتخادم مع الآخر على حساب تلك الثوابت إن وُجدت، فالأحزاب حين عارضت حزب البعث الحاكم عاشت تحت ظروف قاسية في دول الجوار، ولذلك بدأت تتنازل بالتدرج عن ثوابتها مقابل بعض الدعم اللوجستي، وهي لا تبالي في نقض القناعات، حتى بلغ في قلوبهم اليأس من إسقاط صدام حسين إلا بواسطة التعاون مع الغرب عسكرياً لاحتلال العراق.
قوة أي حكومة ديمقراطية بقوة ديمقراطية المجتمع المدني، وفي إعادة ترتيب سلم أولويات الحكومة والشعب، وجعل الدولة أمام موقف متوازن من العدل والأمان والاستقرار؛ حيث يتم رفع مستوى الشعب ورفاهيته ولا يهمل التركيز على إسناد ودعم الحكومة الديمقراطية.
النظرة المستقبلية للعراق الواحد متشائمة جداً، والشعب أحوج ما يكون إلى ضخ كميات كبيرة من التفاؤل بالنصر العسكري على تنظيم داعش، وعودة العراق لعلاقاته الإقليمية، وإن حكومة بغداد أصبحت مؤثرة في واقع من حولها، والعبادي بات جاهزاً ليعيد تقديم نفسه لولاية ثانية.
ويمكن القول إن هناك العديد من الأزمات السياسية والاقتصادية التي تعاظمت تداعياتها وأدت إلى تمكن داعش من التمدد جغرافياً في 32% من مساحة العراق، دون أن تلاقي مقاومة مسلحة كبيرة في معظم تلك المناطق عدا آمرلي وحديثة والرمادي والضلوعية، وربما يرجع السبب في فتور همم السكان في مقاومة عناصر داعش المحتلة لعدة أسباب، أبرزها شهودهم انهيار القوات الأمنية المدججة بالسلاح أمام بضع مئات من وحدات داعش غير النظامية، وأيضاً هول الصّدمة، ونجاح دعاية وإعلام داعش من بث حكايات الرعب والتوحش في نفوس الناس، وأيضاً شعور الناس بفقدانهم أي أمل بتنفيذ الحكومة لبرامج العدالة الانتقالية والمصالحة المجتمعية.
وثمة نقطة مركزية أخرى وهي أن أصحاب الشأن في التّحليل السياسي حمّلوا الفَسَاد الحكومي مسؤولية احتلال أرض العراق من قِبَل داعش، ففساد الحكومات المحلية السابقة بالمحافظات الغربية "السنية" ترجمتها داعش وأخواتها إلى عملية اجتياح تلك الجغرافية التي فقدت أي أمل بالإصلاح.
ومع طبيعة المستجدات التي مرَّت وتمر بها المدن في مرحلتي احتلال داعش وما بعدها، كمستجدات قضية عودة النازحين وعمليات إجلاء من له صلة نسب بعناصر داعش، وتطور حركة العلاقات بين مسلحي الحشد الشعبي الشيعي والحشد العشائري، وبروز تيار شعبي مناطقي وعشائري متحكم كل بحسب منطقته، في محافظات عراقية غير مستقرة وعلى حساب تراجع واضطراب سلطة الحكومات المحلية، وتباين استجابة السكان لتلك المتغيرات، ظهرت مجموعة من الشخصيات المؤثرة تحاول صناعة أكثرية شعبية بعناوين عشائرية أو مذهبية أو قومية، لتغيير وسائل ومسيرة وأساليب السياسة تجاه مناطقهم ومدنهم على الأقل، وقد احتلت قضايا الحرب على داعش وما نتج من ذلك ترتيب أولويات البدائل السياسية في معظم المحافظات العراقية، وأهمها طبيعة البديل الذي سيحقق الاستقرار الأمني والخدمي، ويخرج تلك المدن من مرحلة العسكرة إلى مرحلة المدنية.
ولقد حُرمت الكثير من الشخصيات التي برزت في مرحلة ما بعد داعش، من القدرة المالية على تأسيس الأحزاب السياسية البديلة والمستقلة، وبالتالي اضطرت إلى الانسجام مع الأحزاب الكبيرة بعنوان "مستقل"، ولأن البديل الذي يبشر بالاستقرار السياسي والأمني لمدينة ما، يستخرج غالباً من خطاب أحزابها وتنظيماتها السياسية، وهذا يمنع من التعامل معها كتنظيمات مستقلة فقط، ويحصر مهمتها في معارضة الحكومة أولاً ويصبغها بطابع مؤقت ثانياً.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن هذه الشخصيات المستقلة ومصطلح مستقل سينتهيان يوماً ما، أما بالاندماج مع الأحزاب المموّلة التي تمتلك الخطاب والإعلام أو لأي سبب آخر سياسي كان أو غير سياسي، وسينتهي بالتالي من قاموسنا السياسي المستقل لغة ومضموناً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.