رسالة من طفل ينتظر قصف الطائرات: لي عندك طلب أخير
سيّدي… اسمي ربيع، في عامي الثاني عشر. أعشق كرة القدم، وأشجع فريق "برشلونة". أصدقائي في الحيّ يسخرون من لعبي، أخبرتهم بأنّني يوماً ما سأصبحُ لاعباً عالمياً "كليونيل ميسي"، يبدو أنّني لن أصبحَ لاعباً عالمياً أقلّه.
فقدتُ قدمي اليُمنى في إحدى غاراتك، قيل لي بأنّك تملكُ طائرات حربية،
هل صنعتَ، حين كنتَ في سنّي، سفناً وطائرات من ورق؟
علّمني والدي بأنّ الورق لا يقتل، لكن طائراتك تقتل، والدي كان يفتخر ببزّته العسكرية، حين التحق بفرق الموت. هذا ما أخبرني به: فرق الموت تلك لم تعد تقاوم المخرز، تخلّى عن البندقية والطائرات الحربية، كان طياراً ماهراً.
كانت أمي محظوظة حين تمكنت من لقائه على الأرض.
اليوم، يلازم المنزل أغلب وقته، يصنع سفناً وطائرات ورقية، ويزعم بأنّ الورق لا يقتل.
منذ حوالي الشهريْن، غاب مدة طويلة عن المنزل، اعتقدنا بأنه مات بغارة ما، أو رصاصة قناص، أو سيارة مفخخة، إلا أنه عاد مضرّجاً بدماء ليست دماؤه.
سألتُه: هل التحقتَ بفرق الموت مجدداً؟ وعدتني بأنك ستصبح بطلاً بنظري، لا أريدك بطلاً ببزة عسكرية، تقود طائرات من حديد، تقصفنا بجبروت فرعون وتُغرق مدننا بالبرد والنار.
لا أريدكَ بطلاً يصفقون لكَ بمجلس الشعب، والشعب غائب، الأبطال لا يخدعهم التصفيق يا والدي.
أريدكَ أن تغسل الدماء عن قميصك، والدتي ستزيل بقع التراب عن وجهك، كيف وصل التراب إلى وجهك؟.
للمرة الأولى في حياتي، وجدتُ والدي منكسراً، يذرف دموعه ودماء غيره لسبب غير مفهوم.
فور دخوله من الباب، هرعتُ نحوه مذعوراً، تعثرت وسقطت، أجهش بالبكاء، لماذا بات الكبار يخيفوننا أكثر من أصوات الطائرات؟
كل ما أذكر، هو صوت طائرة وهدير قنابل قريبة جداً، ثمّ غبار كثيف،
لم أشعر بالألم إلا بعد مرور الوقت، شقيقتي كانت ملقية على الأرض، تصدر أنيناً خافتاً، حاولتُ ايقاف الأنين، كان مزعجاً.
حينها أدركتُ بأن قدمي تؤلمني، واللون الأحمر على الأرض أنا من تسبب به.
شعرتُ بالذنب قليلاً، أمي كانت تصرخ، ووالدي بهدوئه المعهود يحاول تهدئتها، وكأنها الوحيدة التي تتألم، لمَ تتألم أصلاً؟ لم تفقد قدمها اليُمنى! أم هل بات الغبار مؤلماً لهذا الحد؟
سيدي، الورق لا يقتل، شقيقتي لم يقتلها الورق، كانت ترسم السماء على الورق وتلوّنها بالأزرق، لم تكن تلحظ لون الغبار، السماء التي رسمَتها كانت تحتوي طيوراً سوداء، لا طائرات، من أين جئتنا بالطائرات أنت؟
لو كانت على قيد الحياة اليوم، ربما لرسَمت طائرة، وأخفتها بلون الغبار، هذا ما أرغب به أنا تماماً، أريد أن أطال السماء بيدايْ الاثنتين، وأمسك بالطائرة التي تبدو صغيرة للغاية، ثمّ أحولها لطائرة من ورق، أقسم بالله بأنّ الورق لا يقتل.
أتعلم سيدي لماذا أقوم بإزعاجك بحديثي الطويل في هذا الوقت المتأخر؟
لأن الوقت المتأخر لا يُقاس بدورة الأرض حول محورها كما درسنا في كتاب الجغرافيا، بل يُقاس بالسنوات الاثني عشر التي قضيتها وكأنني طفل في الخمسين، شاب شعري قبل أن ينبت، شعرت بألم الكبار، الآن في هذه اللحظات، كوالدي أنتظر لحظة الإعدام بالغاز السام.
أصدقائي أعدمتهم طائراتك بالغاز السام، بتهمة تصنيع طائرات من ورق.
أنا صنعتُ الكثير، وفقدتُ الكثير، لم يبقَ لدي سوى النظر إلى السماء الرمادية، وانتظار الطائرة الخبيثة.
لكن ليَ عندك طلب أخير: اجعل موتي سريعاً، أطلق النار على رأسي، أو ضع رصاصة في مكان لا يؤلم، ولا تحوّل جسدي الصغير لكتلة من العظام يكسوها جلداً أصفرا، وشفتايْ زرقاوين بزرقة السماء التي كانت ترسمها يارا.
لا تحولني لجثة هامدة، كما كان صديقي أحمد، لا أريد أن أختنق، الاختناق مؤلم، أحمد كان يتألم، أريده موتاً سريعاً، أسرع من طائراتك، أريد أن يمضي الوقت مسرعاً لأنني حيث أنا اليوم، الوقت توقف في ساعات الحائط، لأن الحائط اكتسى بالغبار، ما أقبحه، وما أقبح السماء باللون الرماديّ، لكن الأقبح، هي الأرض التي فقدت ألوانها، واكتست بالرماديّ، والأحمر القاتم.
سيدي، انتهى الكلام عند هذا الحدّ، انتهيْت.