“العنف المُستباح” لمعتز الخطيب: مأزِق الدولة والجهاد العبثي

- تفكيك المفاهيم، كالجهاد والحرب والعنف والإرهاب، وبسْتَرَتُها لمعرفة الفوارق وعوامل الاتصال والانفصال فيما بينها؛ ما يساعد في فهم الأزمة الناشئة عن عبثية جهاد جماعات العنف؛ بدءاً من تنظيم القاعدة وما أثار من جدل، ثم التطور الخفي الذي نشط داخله سنواتٍ ليُداهم العالم بتنظيم داعش الأكثر عنفاً

عربي بوست
تم النشر: 2017/04/16 الساعة 03:12 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/04/16 الساعة 03:12 بتوقيت غرينتش

منذ ظهور تنظيم القاعدة إثر أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، وبعد عقدٍ ونيّف من النقاشات الدولية والإقليمية حول "العنف الإسلامي" وما رافقها من كتاباتٍ تفسيرية، افترقت في الخلفيات الأيديولوجية والفكرية وتقاطعت في الرؤية الاختزالية والمقاربات الانتقائية- يبرز عمل بحثي خارج قوالب التفسير المألوفة ليشكّل قنطرةً نحو دراسة فِكر التنظيمات الجهادية
العنيفة في سياق حركة الواقع المعيش بمركّباته كافة.

فغالبية الدراسات انشغلت: إما بالنص الفقهي كمُولّدٍ للعنف، وإما بالتكوين الاجتماعي والبناء التعليمي والثقافي لجماعات "العنف الإسلامي"، وإما بظروف المنطقة وهزائمها المتتالية كمُنتِجٍ حتمي لها، وإما بإحياء فكرة صدام الحضارات بين الإسلام والديمقراطيات الغربية باعتبار أن
"الأصوليين يريدون بالعنف استعادة مجد الإسلام"، لكن كل هذه التفسيرات تجاهلت مسألتين في معضلة فهم الظاهرة، ينفرد كتاب "العنف المستباح" للدكتور معتز الخطيب في تناولهما:

– تفكيك المفاهيم، كالجهاد والحرب والعنف والإرهاب، وبسْتَرَتُها لمعرفة الفوارق وعوامل الاتصال والانفصال فيما بينها؛ ما يساعد في فهم الأزمة الناشئة عن عبثية جهاد جماعات العنف؛ بدءاً من تنظيم القاعدة وما أثار من جدل، ثم التطور الخفي الذي نشط داخله سنواتٍ ليُداهم العالم بتنظيم داعش الأكثر عنفاً. لذا، فإن تنقية المفاهيم تسهم في التحرّر من نزعة
الاتهام الاستباقي تجاه دين معيّن أو أناس بعينهم.

– تركيبية الظاهرة الناتجة عن تداخل العوامل السياسية والأيديولوجية والدينية والتنظيمية. فالأفكار وليدة عملية تكاملية بين سياقات متعدّدة تؤثر فيها وتتأثر بها، وهو ما ينطبق على فكر جماعات العنف الذي لا يمكن فصله عن واقعٍ بالغ التعقيد.

من هنا، يسعى الكاتب لاكتناه المنهجية المركّبة من مقاربتين: مفهومية وتحليليّة. وليس زخرفاً القول إن المقاربة المفهومية التي خصّص لها القسم الأول ترفد القارئ بتفسيرات وافية من جهة، وتضع الفقهاء المعاصرين أمام مسؤولية كبيرة من جهة أخرى.

فالإرث الفقهي والعسكري والمؤلفات الإسلامية عبر التاريخ، صنّفت "الجهاد" ضمن تصوّر محدّد: الجهاد ضد الأعداء في الخارج، وكان الفقهاء يحيلون المسألة إلى السلطة القائمة وتنظيماتها، حيث تشكّل جزءاً من منظومتها.

ومع نشأة الدولة الوطنية في مرحلة ما بعد الاستعمار، فُرِضَت مفاهيم ونظم لم يكن لها اعتبار في ظلّ الدولة الإسلامية: فإذا كان الجهاد منوطاً بالإمام في ظل الدولة الإسلامية المتسعة الأرجاء، فإنه مع فكرة الدولة الوطنية نشأ منصب الرئيس في كل دولة. وإذا كان المفتي مَن يصدر الفتوى بوجوب الجهاد، فإن فتواه في ظل الدولة الحديثة لا تتعدى حدود "الإعلان"؛ لأنه لا يملك من أمر السلطة شيئاً.

وإذا كان الجهاد في سبيل الدفاع عن دار الإسلام، فإننا أصبحنا مع الدولة الوطنية أمام "دور إسلام"، المصطلح الذي أطلقه الكاتب للتعبير عن واقع الدول العربية اليوم، حيث بات لكل منها نظام وأجندة. وإذا كانت شؤون الجهاد في الفقه مُسندة للإمام الذي يجمع بين الديني والسياسي، فإننا أصبحنا مع الدولة الوطنية أمام نظام فصل بين الدين والسياسة، وتشظّت الفتاوى الدينية بين "فقهاء الدولة وفقهاء الحركات الإسلامية وفقهاء الجهاد".

كذلك، فإن مفهوم "العدو" اختلف بين زمن الدولة الإسلامية حيث وحدة النظم والقيم، والدولة الحديثة ذات التبعية الكاملة وتداخُل العلاقات والمصالح بينها، والقوى الدولية. فلم يعد هناك معنى للحديث عن "الجهاد" كجزء من تنظيمات الدولة ولا عن ربطه بقرار الإمام؛ لأنه انتقل
من مُهِمّة مُلازمة للدولة إلى فعل جماعات وأفراد خارجين عليها.

أمام هذه التعقيدات، وفي ظل غياب سواقي التغذية من قِبَل علماء الفقه المعاصر لرسم رؤى واضحة حول "الجهاد" في إطار الدولة الحديثة- برزت تنظيمات تمارس "الجهاد" عبثاً بأساليبها الخاصة، وتحوّله من مواجهة الأعداء المحاربين خارج "دار الإسلام" إلى الداخل المجتمعي وضد الحاكم وأعوانه وكل من يرضى بحكمهم.

في القسم الثاني، يلجأ الكاتب إلى تفحُّص الأطروحات الغربية المتزاحمة حول تفسير العنف والإرهاب، ويقف على مفاصل الثغرات التي وسمت كل مقاربة على حدة، فلَو سلّمنا بأن العنف أصيلٌ وتكويني في الدين الإسلامي، فالأمر يقتضي أن يلتزم جميعُ المسلمين على مدار التاريخ بالنصوص الدينية التي يُفترض أنها تحضُّ على العنف "فلماذا أثمر لدى فئة محدودة؟ ولماذا يثمر في أرض دون أخرى وفي زمان دون آخر؟".

ولو مضينا مع تفسير الإرهاب كتعبير عن الانزعاج الثقافي داخل العالم الإسلامي من الحداثة وقيمها المعزّزة، ونتاج للتعليم الديني التقليدي، فإن عامّة قادة جماعات العنف ليسوا من خريجي مؤسسات التعليم الديني، حتى إن عدداً كبيراً من عناصر هذه التنظيمات تعلّم في الغرب ونشأ في حضن الثقافة الغربية.

وإذا تبنّينا الرأي الذي يحيل الظاهرة، حصراً، إلى ما عانته المنطقة العربية من استبداد وحروبٍ وتفاقم مشكلات الفقر والبطالة، فإننا نسلّم بأن الدافع انفعالي صرف، ونهمّش البنية الفكرية لجماعات تنضوي تحت ما يسمى "حركة الجهاد العالمي".

أما النموذج التفسيري الذي يساوي بين الإسلام والإرهاب ويستحضر نظرية صدام الحضارات باعتبار الظاهرة "رد فعل تاريخي لخصم قديم يمثل التراث اليهودي-المسيحي وللحاضر العلماني"، فإنه يُغيّب المشكلة الأكبر وهي تصوير مفهوم الغرب ومفهوم الإسلام على أن كلّ واحد منهما كلٌّ متجانس في مواجهة الآخر، ويثير التباسات من نوع استدعاء ثنائيات الشرق والغرب، والمسيحية والإسلام "وكأن الشرق لا يوجد فيه مسيحية"!

ثم يتوغّل معتز الخطيب في القسم الثالث والأخير في غوامض البنية الفكرية لتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)؛ إذ ثمّة توقّف تحليلي يفاجئ القارئ وينفض الغبار عن تساؤلات حول ماهية علاقة التنظيم بالتقليد الفقهي وكيفية استخدامه النص لاستباحة الدماء، ليكشف أن الأصول الكلية لدى جماعات العنف تدور على فكرة إعادة اكتشاف الإسلام من جديد، أي تجاوز الإرث الإسلامي والقطيعة التامة مع التجربة والفهم التاريخيّين، فيغدو النص "بكراً كأنه لم يُفهم من قبل أو أُسيء فهمه أو تم تعطيله"، وتحرص على إعادة الكتابة فيه من جديد دون التقيّد بنصوص المذاهب الفقهية ومع الطعن بالعلماء والمرجعيات الدينية.

وبما أن جماعات العنف لا تعترف بالتقليد الفقهي، فهي حتماً خرجت عنه، الأمر الذي يثير التساؤل حول ما إذا كانت هناك سوابق تاريخية مشابهة لأفعالها، ليجد الكاتب أوجه شبه بينها وبين إرث ما قبل التقليد (حركة الخوارج). ورغم اختلاف التكوين والسياقات التاريخية، فالتشابه يقع في 3 مستويات: ادعاء الإمامة والاستقلال بها، القول إنهم جماعة المؤمنين التي تمثل وحدها الإسلام وتكفير المخالفين وتحويل الدار إلى دار كفر، وتوجيه الجهاد نحو الداخل؛ نظراً لما عُرف عن الخوارج القدامى من عدم اكتراث لقتال الأعداء الخارجيين واقتصار مشروعهم على تصحيح وضع السلطة والمعتقد، فنشأ عنفهم الفائق في ظل صراعهم مع الدولة الأموية.

إن الفكرة الرئيسية للكتاب تتلخّص في المأزق الراهن الذي نعيشه في ظل الممارسات الجهادية العبثية. فإذا كانت الدولة الوطنية تبنّت حداثة هشّة مزّقت بها المجتمعات العربية والإسلامية، فإن جماعات العنف حوّلت الشريعة إلى أداة للخروج على الدولة والمجتمعات معاً، فباتت الأخيرة تعاني مأزقين: مأزق الدولة ومأزق جماعات العنف.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد