منذ اللحظة الأولى للتدخل الروسي في سوريا، كان جلياً أن لديهم استراتيجية بعيدة المدى، لا تهدف فقط إلى تغيير ميزان القوى الذي كان يصب في صالح المعارضة في وقتها، وإنما أيضاً كانت تهدف إلى خلط جميع الأوراق، والتلاعب بالتحالفات الموجودة على الأرض، وهذا ما كان يجهله النظام والمعارضة في آن واحد.
فعلى الرغم من أن الوجود العسكري الروسي في سوريا منذ بداية الأحداث كان محدوداً ومقتصراً على الخبراء العسكريين، فإنها كانت المتحكم الفعلي بمجريات الأمور، وتدخلها كان في الوقت المناسب تماماً لتنفيذ الاستراتيجية المخطط لها.
فروسيا لديها خبرة طويلة في المنطقة اكتسبتها عبر سنوات طويلة من التحالف مع الأنظمة "القومية"، وتعرف التركيبة الاجتماعية والثقافية لتلك البلدان، ما مكنها من الاستفادة من كل المتناقضات الموجودة في تلك المجتمعات لقيادة الدفة بالطريقة التي كانت تريدها، فلو أن روسيا تدخلت عسرياً منذ اللحظة الأولى من اندلاع الانتفاضة الشعبية في سوريا، لكانت أصبحت في مواجهة مباشرة مع المعارضة السورية، ما سيمنعها من لعب دور "الحكم" الذي تجيده القيادة الروسية بشكل جيد!
فقبل التدخل الروسي كانت إيران هي اللاعب الأساسي على الأرض عبر ميليشياتها المختلفة التي تم استقدامها إلى سوريا كـرديف لما تبقى من قوات الجيش السوري وقوات الدفاع الوطني التي تم استحداثها لاحقاً، وإن كانت إيران تعتقد أن تدخلها في سوريا جاء بقرار داخلي، إلا أن روسيا هي من هيأت الظروف لهذا التدخل، موهمة إيران بأنها صاحبة القرار .
وبقيت روسيا خلف الكواليس تقوم بحماية الطرفين – السوري والإيراني – عبر استخدام الفيتو مرات عدة لإيقاف قرارات تدين النظام السوري.
فالقيادة الروسية كانت تعي تماماً، بحكم خبرتها في المنطقة، أن تدخل إيران في سوريا سيحول الوضع من انتفاضة شعبية في وجه النظام السوري إلى حرب أهلية على أسس طائفية، وهذا كان الوضع الأمثل لروسيا التي كانت على يقين بأن استمرار الوضع على ما هو عليه – قبل تدخل إيران – سيطيح بحليفها الرئيسي والأخير في منطقة الشرق الأوسط، وهذا ما لن تسمح به روسيا أبداً.
كما أن وجود إيران بثقلها الطائفي في سوريا مكّن روسيا من استخدامها كعصا في وجه طرفي الصراع (النظام والمعارضة)، بينما تبقى روسيا تحمل "جزرة" الحماية من التمدد الإيراني في سوريا.
وعلى غرار ما فعلت روسيا مع إيران، فعلت الأمر ذاته مع النظام السوري، فعندما أطلقت روسيا يد إيران في المنطقة، كانت متيقنة أن النظام السوري سيأتي إليها شاكياً الهيمنة الإيرانية على القرارين السياسي والعسكري في سوريا، فروسيا الأكثر معرفة بالسياسة الإيرانية وطموح إيران في المنطقة، ولم يأتِ التدخل الروسي إلا بعد طلب رسمي من السلطات السورية التي ظنت أيضاً أنها صاحبة القرار في استقدام الجيش الروسي إلى سوريا، ما مكّن الروس من فرض شروطهم على القيادة السورية لـ"إنقاذهم" من التمدد الإيراني.
وحتى اليوم لا تزال المعادلة قائمة، فكلما أرادت روسيا تحقيق مكاسب وامتيازات جديدة في سوريا، تطلق يد إيران في منطقة ما؛ ليطلب النظام السوري من روسيا وقف الإيرانيين، ما يُمكن الروس من طلب مقابل لتدخلهم، إضافة إلى أن روسيا قامت أكثر من مرة بالإعلان أنها ستقوم بسحب بعض قواتها من سوريا إثر رفض القيادة السورية الالتزام بالتوجيهات الروسية للمشاركة في جلسات مفاوضات، أو إيقاف استهداف بعض المناطق، إلا أن النظام السوري كان دائماً يتراجع في اللحظة الأخيرة خوفاً من تفرد إيران بالمنطقة.
والأمر كان مشابهاً مع المعارضة السورية التي توعدت روسيا بـ"أفغانستان" جديدة، معتمدين في ذلك على الدول الداعمة لهم، إلا أن الأحداث على الأرض كانت معاكسة تماماً لتوقعاتهم.
فعلى الرغم من الخسائر العسكرية التي مُنيت بها روسيا خلال أيامها الأولى، عبر تفجير مروحيتين للجيش الروسي في ريف اللاذقية، وقيام تركيا بإسقاط مقاتلة حربية روسية بالقرب من حدودها، فإن المعادلة تغيرت منذ بداية التقارب الروسي – التركي الذي كان إعلان بداية تقاسم النفوذ في سوريا بين الأطراف الدولية، والذي أفضى في مراحله الأولى إلى إخراج المعارضة السورية من حلب مقابل نشر قوات من الشرطة العسكرية الروسية، والسماح لتركيا بالتدخل في شمال سوريا لوقف قيام "الدولة الكردية"، وهو ما أجبر المعارضة السورية على الجلوس على طاولة الحوار مع الطرف الروسي.
لتنتقل بعدها روسيا إلى لعب دور الخصم والحكم في الوقت ذاته؛ حيث بدأت روسيا بفرض إملاءاتها على المعارضة تحت تهديد إطلاق يد الميليشيات الإيرانية في مناطقهم، كما حصل في منطقة وادي بردى، وكما حصل قبل أيام على جبهة جوبر والقابون في دمشق وغيرها من المناطق.
حيث تعمل روسيا على إظهار قواتها الموجودة في سوريا على أنها حامي "السنة" من المليشيات "الشيعية"، عبر نشر وحدات من الشرطة العسكرية الروسية على الجبهات للفصل بين المعارضة وقوات الجيش السوري المدعومة من الميليشيات الموالية له، بشرط أن توافق المعارضة على ما تمليه روسيا عليهم، أو تنسحب روسيا من المنطقة مطلقة يد الميليشيات لتفعل ما تشاء، أو التهديد بحرق منطقة بأكملها في حال رفض المعارضة الانسحاب منها، وفي حال موافقة المعارضة، فإن روسيا تتحول إلى وسيط بينهم وبين النظام، وكأنها لم تكن طرفاً في الصراع .
التحول الأكبر في سير الأحداث في سوريا منذ تدخل روسيا كان بتصريحات وفد المعارضة السورية المشارك في مفاوضات الأستانا بأن روسيا أصبحت دولة "ضامنة" للتسوية في سوريا، بعد أن كانت توصف دائماً بالعدو، بحسب أدبيات المعارضة، إضافة إلى تصريحات مشابهة حول الدور الروسي الذي يقوم بكبح جماح الإيرانيين في سوريا!
وتحول روسيا إلى "شرطي" المنطقة؛ حيث تقوم جميع الأطراف بالشكوى لـ"مركز حميميم" عند وقوع أي انتهاك أو خرق لأي اتفاق، كونها الدولة الراعية والضامنة للاتفاقات، بينما تقوم روسيا بإمساك العصا من الوسط؛ لضمان إبقاء جميع الأطراف بحاجة إليها.
فرضت روسيا نفسها كلاعب أساسي في سوريا بشكل واضح منذ تدخلها المباشر في سوريا، والواضح أن دورها لن ينتهي في الفترة القريبة، فجميع التحضيرات التي تقوم بها روسيا في سوريا عبر بناء مراكز قيادة وقواعد عسكرية تؤكد أنها لن ترحل قريباً من المنطقة، وأنه على السوريين التعامل معها على أنها أمر واقع، ومحاولة تحقيق أي مكاسب سياسية مع استحالة الحسم العسكري، إلا إذا أعاد الطرف الأميركي تسلم زمام المبادرة لوقف الطموحات الروسية في المنطقة، وهو ما لا يبدو أنه سيحصل على المدى المنظور.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.