كيف يُزرع الموت؟

كل ما تحدثت فيه هو وضع عام، لكن الأقسى يحتاج إلى أن تعتبر كل ما فات شيئاً تافهاً، وتكمل القراءة، فئران التجارب كانت تدخل المعامل يصعق أحد الفئران فيتكلم بما أملوه عليه، والآخر لا يتكلم فيموت، والآخر لا يتكلم ولا يموت، وتظل التجربة قائمة لعدة أشهر تحت تأثير الكهرباء.

عربي بوست
تم النشر: 2017/04/01 الساعة 03:32 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/04/01 الساعة 03:32 بتوقيت غرينتش

كلنا نعرف أن الأعضاء تُزرع حينما تتلف، وقد لا تفلح عمليات زراعة الأعضاء على عكس الموت، عملية نجاح زراعة الموت مضمونة بنسبة 100%‏، وفئران التجربة نما عندها الموت وحينما هربت منه ظل شبحاً يطاردها.

كنا في واحدة من زنازين النظام التي لا تتسع إلا لأربعة أشخاص، عددنا كان يتجاوز الستين أحياناً، كان يقف البعض لينام البعض الآخر، ونتبادلها طوال اليوم، لا يوجد مكان لتضع فيه قدمك إلا الحمام الذي لا يصلح لقضاء حاجة كلب أو قطة، هذا ليس تقليلاً من الحيوانات، لكنها بالفعل لن تستطيع أن دخوله.

الزنزانة حائطها يتجاوز الـ80 سم، بها فتحة واحدة للهواء لا يتجاوز عرضها 20 سم، وبقية الفتحات مسدودة بـ"الشفاطات"، إذا كان الجو بارداً يشغلون الشفاطات لتُدخل الهواء البارد علينا كالرصاصات التي تضرب عظامنا فتفتك بها، ونحن لا نستطيع حتى الجلوس للراحة أو تغطية أنفسنا؛ لأن المكان لن يسع عددنا بهذا الشكل فنضطر للتحمل.

كان الطعام كالصخرة تحاول مضغها فتكسر أسنانك، الصراصير والفئران هناك من أصدقاء السجين، الماء ليس نظيفاً، ولكن لا يوجد غيره فتشربه أو تتجرعه، المرض كان شيئاً عادياً بيننا، والعدوي كانت تنتقل كالرياح في كل نفس.

كل ما تحدثت فيه هو وضع عام، لكن الأقسى يحتاج إلى أن تعتبر كل ما فات شيئاً تافهاً، وتكمل القراءة، فئران التجارب كانت تدخل المعامل يصعق أحد الفئران فيتكلم بما أملوه عليه، والآخر لا يتكلم فيموت، والآخر لا يتكلم ولا يموت، وتظل التجربة قائمة لعدة أشهر تحت تأثير الكهرباء.

في مبنى قوات الأمن المركزي، محافظة كفر الشيخ، الساعة الثانية صباحاً في ساحة التريض، يجتمع مجموعة من العساكر، انهالوا ضرباً على أحدهم واستيقظنا على صوت صراخه، ظل يصرخ ويتأوه وهم يضربونه، سمعنا صوت الصواعق الكهربائية ممزوجة بصوت صراخه، صوت عظامه حينما تكسرت من كثرة الضرب كان واضحاً جداً، في اليوم التالي سألنا أحد أمناء الشرطة، قال لنا إنه واحد من قيادات الإخوان "كنا بنشرفه"، والتشريفة في السجن تعني استقبال النزيل بشتى أنواع التعذيب الجسدي والنفسي "حفلة تعذيب متكاملة".

مرة أخرى كنا في إحدى الزنازين وجاءنا زائر كان مختفياً قسرياً منذ أكثر من شهر، ولا يستطيع أن يقف على قدميه ويتنفس بصعوبة، كنت أهرب حبوب الترامادول عن طريق الجنائيين، كنت متردداً ولكني أعطيته القرص في النهاية، نام ولم ينطق بشيء، وحينما فاق بعد يومين لم يستطِع الوقوف أسندناه حتى الحمام ودخل معه أحدنا وحممه وغيَّر له ملابسه، سألناه عما حدث فلم يجِب حرجاً مما حدث، لكننا نعرف ما قاموا به، كان واضحاً على يديه علامات "الكلبشات"، علقوه في بابٍ وأبرحوه ضرباً، كان وجهه متضخماً كأن خلية نحل عبثت بوجهه، جاءوا بعد أيام ليأخذوه مرة أخرى، واختفى منذ ذلك الحين حتى ظهر في سجن عمومي بمحافظة أخرى بعد ثمانية أشهر، آلاف من الحالات المتكررة يومياً في سجون مصر لا يسع كل حالة مقال أو عشرة مقالات.

يزرعون في السجن الأمراض فتنمو في أجسام المعتقلين الصغار والكبار، يموتون من شدة الإهمال والتعذيب وضيق التنفس وطول مدة الحبس الانفرادي وأشياء لا تحصى، حملات التضامن كانت تطالنا جميعاً، لكنها لا تفيد، فالمسجون لن يفيده العلاج كثيراً، لكن الشيء الوحيد الذي قد يعيد له حياته هو خروجه من السجن، خروجه من السجن الواسع والضيق، من البلاد كلها، القتلة الذين يحكمون مصر فنانون في زراعة الموت، يعرفون كيف يزرعونه ويحصدون أمواتاً لا عدد لهم، ولا يبكي عليهم أحد، ولا يجدون ردة فعل تمنعهم فيزرعون الموت أكثر ويحصد المعتقلون موتاً أكثر.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد