عقب إلقائه بيان الجيش لعزل أول رئيس مدني منتخب لمصر، أصبح الجميع يتحدث عن الرجل القوي بالبلاد، إنه الجنرال الذي طالما حلم برئاسة البلاد منذ زمن، وبعدما تمكن من كل شيء، وأزال كافة العقبات من طريق أحلامه، وأصبح الرئيس والزعيم وبطل البرامج التلفزيونية ومانشتات الجرائد، كما كانت تداعبه أحلامه، فحطم كل ما يتوهم أنها عقبة في طريقه.
لكن الوطن الذي حلم بحكمه والجلوس على عرشه، أصبح يئن تحت وطأة مشاكل وأزمات لم تمر به في أي حقبة من حقب التاريخ، وبسبب رعونة هذا الجنرال المتلهف للزعامة والمجد، بدد ما تبقى للوطن من مقدرات وأحال عيش المصريين إلى عذاب، وضيع ما تملكه مصر من قوة ناعمة وتأثير إقليمي ودولي، وبنظرة سريعة على حجم التغيير الذي طال كل جوانب الحياة في مصر يمكن لنا أن ندرك الخطر المحدق بالوطن وبالمنطقة.
أول شيء تضرر في مصر ما بعد الثالث من يوليو/تموز هو الجانب الاجتماعي والاقتصادي للبلاد، بشكل فاق تصور أشد الناس تشاؤماً، لما يمكن أن يسببه انقلاب الجيش على الرئيس المنتخب؛ حيث قفز عدد الفقراء في مصر من 19 مليوناً عام 2010 إلى 30 مليوناً 2014، بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الحكومي.
بينما ذهبت دراسة تحليلية إلى أبعد من ذلك بكثير؛ حيث قالت الدراسة التي أعدتها كلية التجارة جامعة الأزهر: إن أعداد الفقراء في مصر وصلت إلى 75 مليون مواطن بسبب ارتفاع أسعار السلع الاستراتيجية وتراجع معدلات النمو وتحريك أسعار الصرف داخل السوق المحلية الذي ارتفع مقابل الجنيه بنحو 40 في المائة، وبالتزامن مع تخفيض دعم الوقود بنحو 42 في المائة، وزيادة فواتير الكهرباء والماء والغاز بنفس النسب، ترتفع نسبة الفقر لـ80 مليون مواطن، كما أثبتته الدراسة الأكاديمية.
أما أحوال الطبقة الوسطى (وتضم شريحة كبيرة من المواطنين، كانت تقف في منطقة وسط بين الأغنياء والفقراء) فلا تقل سوءاً عن الفقراء، فمنذ سنوات بدأت تتلاشى شيئاً فشيئاً حتى اختفت تماماً، وأدى ارتفاع الأسعار للقضاء على وجود هذه الطبقة بشكل نهائي، وأصبح المواطنون مقسمين إلى أغنياء وفقراء، وذلك بحسب الدكتور عادل عامر، رئيس مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية.
وأشار الدكتور عامر إلى تضخم ثروات الطبقة الغنية في مصر التي يمثل أعضاؤها 20 في المائة فقط من المصريين، يمتلكون 80 في المائة من الثروات، بينما يمتلك النسبة الباقية من الشعب المصري 20 في المائة فقط من الثروات.
ويوم الخميس 9 مارس/آذار 2017 نشر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء بيانات التضخم؛ حيث ارتفع المعدل السنوي العام لتضخم أسعار المستهلكين في مصر إلى 7.31 في المائة في فبراير/شباط الماضي، في حين بلغ معدل التضخم في المدن 2.30 في المائة، وبذلك سجل التضخم في عهد الانقلاب أعلى مستوياته منذ 30 عاماً وتحديداً منذ نوفمبر/تشرين الثاني 1986.
وواصلت أسعار السلع والخدمات الارتفاع منذ قيام الحكومة بتنفيذ إجراءات اقتصادية قاسية فرضها صندوق النقد الدولي، تمثلت في تخفيض الدعم الحكومي، وفرض ضريبة القيمة المضافة، وتحرير سعر صرف الجنيه أمام الدولار.
لقد أدت هيمنة شلة كبار الضباط على مفاصل الدولة منذ إزاحة الملك فاروق عام 1952 إلى تدمير قوة مصر الاقتصادية، وتحويلها لدولة تتسول المساعدات، عبر استنزاف مقدراتها لطائفة كبار الضباط، وشريحة ضيقة من رجال الأعمال الذين تربوا على أعين أجهزة الاستخبارات في أقبح صورة من صور التزاوج بين السلطة والثروة.
ومما زاد الطين بلة وعمق من جراح ومآسي فقراء مصر المطحونين، هو غلق نافذة النور الوحيدة والبلسم الذي كان يخفف آلامهم، ألا وهي الجمعيات الخيرية والتطوعية لمساعدة شرائح الفقراء والأيتام والمطلقات والمرأة المعيلة، بحجج واهية كشبهة الانتماء لاتجاه سياسي للقائمين على تلك الجمعيات المنتشرة في كل مدينة وقرية ونجع من نجوع مصر.
فأقدمت السلطات العسكرية المهيمنة على مقاليد الأمور بمصر على مصادرة وغلق 1107 جمعيات أهلية، و174 مدرسة تابعة للإخوان، و38 مستشفى و10 مراكز متخصصة للغسيل الكلوي و12 صيدلية تابعة للجمعية الطبية الإسلامية، التي أنشأها الدكتور أحمد الملط، أحد قيادات الإخوان في عام 1977، فتم حرمان عشرات الآلاف من الأسر الفقيرة والمعدمة من الرمق الذي يسد جوعهم، ومن الترياق الذي يشفي عللهم بدعاوى السياسة ومحاربة جماعة الإخوان المسلمين، ولم يقم أي طرف في مصر، سواء من النظام الحاكم أو القوى والأحزاب السياسية، بملء الفراغ الذي أحدثه إقصاء جماعة الإخوان عن العمل العام، واكتفى الجميع بالمشاهدة والتغني بأوجاع ومعاناة الفقراء والمهمشين.
وحدهم فقط فقراء مصر من يعلمون جيداً من يقف معهم في أزماتهم، ويشاركهم الأفراح والأتراح ويسعى في قضاء حوائجهم، غير ممتنين عليهم بعطاء ولا متاجرين بآلامهم لتحقيق مكاسب سياسية أو اجتماعية، إنهم الفئة التي تم إقصاؤها بكل عنف ودموية لتعارضهم مع مصالح كبار الضباط المهيمنين على السياسة والاقتصاد في مصر منذ 6 عقود، وللمفارقة فلا أحد من أتباعهم ولا أشد خصومهم يمكن أن ينكر الدور الاجتماعي والخيري الذي كانت تؤديه جماعة الإخوان في مصر، وتخفف بذلك عبئاً ثقيلاً عن كاهل الوطن.
لقد خسرت مصر كثيراً بإقصاء أكبر قوة اجتماعية منظمة ترعى شؤون عشرات الآلاف من الأسر الفقيرة في طول البلاد وعرضها، بغض النظر عن أدائهم السياسي وما شابه من قصور في أحيان، مثل أي قوى سياسية تمارس السلطة لأول مرة بعد عقود من القمع والتنكيل والتجريف لكل مقومات الوطن.
كثير من المراقبين يتحدثون عن حتمية حدوث اضطرابات مقبلة في مصر بسبب الإجراءات الاقتصادية المتخبطة والأزمة السياسية التي أفقدت الشباب الأمل في التغيير، فضلاً عن الفضائح السياسية المتوالية للنظام ورئيسه ومهازل التنازل عن أجزاء من التراب الوطني.
وأعادت مظاهرات الخبز التي خرجت بعفوية احتجاجاً على وقف العمل ببطاقات التموين الورقية وتقليص حصة المخابز من الخبز المدعوم إلى النصف، الحديث عن ثورة جياع أو انفلات للأوضاع بمصر، كما تتواتر تحذيرات مراقبين ومراكز أبحاث حول احتقان الحالة المصرية؛ حيث قالت صحيفة معاريف الصهيونية محذرة حليفها أن "سيناريو 2011 قابل للتكرار مجدداً ضد السيسي، لكنه هذه المرة قد يكون أكثر دموية، مع أن نجاح مصر أو فشلها يعد مهماً لإسرائيل، ومن دونها فلن يتحقق الاستقرار في الشرق الأوسط".
تتابع الأحداث بهذا الشكل مع وجود حكم عسكري متسلط ووضع أمني منفلت وأفق سياسي مغلق وأزمات اقتصادية طاحنة، هي بصدق وصفة سحرية للفوضى التي تحقق نبوءة كونداليزا رايس، فهل نحن مقبلون على صدام جديد؟ لكن ليس بين العسكر وحزب سياسي، بل صراع مع أكبر شريحة شعبية وهم الفقراء، الذين تخطوا حاجز نصف الشعب، وهل تقضي أحلام الفقراء في العيش والحرية على حلم الجنرال بالتربع على عرش مصر هو وشلته؟! هذا ما ستجيب عنه الأيام القادمة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.