صوت مآسي الموصل يعلو على صوت المعارك الطاحنة فيها

أم الربيعين عروس دجلة، تغيرت معالمها حتى أضحت خراباً وركاماً وأطلالاً واقفة هنا وهناك، شاهدة على أهوال قيامة مدينة الموصل التي قامت منذ سنوات ولم تقعد إلى الآن

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/27 الساعة 04:20 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/27 الساعة 04:20 بتوقيت غرينتش

من تحت ركام المنزل المقصوف بطائرات التحالف الدولي، مستهدفين عناصر داعش المتحصنين بين المدنيين في المناطق السكنية، امتزج أنين ساكنيه مع صرخات الاستغاثة الضعيفة من الجوع والعطش لعدة أيام، وهم محتجزون في سرداب المنزل الممتلئ بجيرانهم، الذين نجوا بأعجوبة، بعدما فجَّر انتحاري داعشي سيارته المفخخة أمام منازلهم أثناء تقدم القوات العراقية لتحرير الحي، جاعلاً تلك المنازل قبوراً لأصحابها، ومن كان في عُمره بقية نجا فاقداً أحد أطرافه أو أحد أبنائه أو زوجته أو كل أفراد عائلته.

حينما نتحدث عن الموصل ومآسيها وأوجاعها وخرابها ودمارها الذي لا يصدقه أحد، نجد أنفسَنا أمام مدينة منكوبة بكل تفاصيل النكبة، تعجز عن وصفها الكلمات؛ إذ اختلطتْ فيها الأشلاء بالركام والدماء بالأوحال، ترى الناس سكارى من هول ما رأوه.

أم الربيعين عروس دجلة، تغيرت معالمها حتى أضحت خراباً وركاماً وأطلالاً واقفة هنا وهناك، شاهدة على أهوال قيامة مدينة الموصل التي قامت منذ سنوات ولم تقعد إلى الآن؛ إذ لم يسلم أي مبنى من زخات الرصاص أو قذيفة عشوائية أو عربة مفخخة عصفت بكل شيء تاركة حفراً عميقة كندوب في وجه المدينة الجميلة.

من بعيد دخان أسود يغطي المدينة كثياب الموت لحرائق أشعلها التنظيم في المنازل والسيارات المدنية لمنع الطائرات من رصد تحركاتهم وانتقاماً من الأهالي لعدم مساعدتهم للتنظيم .

رائحة الموت تنبعث من كل شارع وزقاق ودار مهدمة، جثث متفسخة لعناصر داعش، ومدنيون حاولوا الهروب فقتلوا قنصاً على يد عناصر داعش، كالسيدة العجوز التي بقيت أياماً وسط الشارع العام بعدما قتلها قناص داعشي وهي تحاول الهروب مع أحفادها.

حتى الغازات السامة كالكلور والخردل استخدمها التنظيم في مهاجمة القوات الأمنية وسط المدنيين موقعاً إصابات خطيرة بينهم .
كل ما ذُكر آنفاً هو أحداث يومية يعيشها المدنيون بكافة تفاصيلها المرعبة، وتمثل أجزاء الأعشار مما حدث ويحدث على أرض مدينة تاريخية كبيرة عمرها آلاف السنوات، وما يتسرب للإعلام شيء قليل جداً .

يقول محمد بعدما فقد جميع أفراد عائلته بالقصف العشوائي فاراً بطفلته: هنالك إرادة لجعل معركة تحرير الجانب الأيمن بعيدة عن أنظار العالم، معركة صامتة عمياء، رغم أصوات القصف ووهج النار والعصف التي يهز المدينة كزلزال لا يبقي ولا يذر، واشتباكات مستمرة ليل نهار، ويبدو أنهم مصرون على تدمير المدينة وقتل أهلها عن بكرة أبيهم.

ويتابع: لم أنم منذ أيام، فالهدوء والنوم غادرا المدينة منذ زمن بعيد، فقط الموت يجوب أزقتها؛ ليحصد كل ثانية أرواح أهلها الأبرياء .
مندهشاً يتحدث أحد الإعلاميين: للوهلة الأولى قد يظن من يدخل مدينة الموصل أنها إحدى المدن التي جرت فيها معارك الحرب العالمية الثانية، أحد أعضاء الفريق الطبي النرويجي يقول إنه يوم القيامة في الموصل؛ حيث كل أنواع الأسلحة الفتاكة جربت بها، كثافة نارية عالية جداً جداً، قصف عشوائي بأسلحة ثقيلة من الطرفين داعش والقوات العراقية المهاجمة والتحالف الدولي، على بيوت متهالكة قديمة جداً في مساحة ضيقة جداً، ذات أزقة عشوائية مكتظة بالأبرياء .

آلاف الضحايا دفنوا تحت أنقاض منازلهم، وآخرها فاجعة منطقة موصل الجديدة؛ حيث تشير الروايات إلى أنه بناء على الطلب العراقي من الأرض قام التحالف الدولي بقصفها، مستهدفاً صهريجاً مفخخاً ليدمر بذلك عشرات المنازل فوق أصحابها، موقعاً عدداً كبيراً من الضحايا الذين اتخذهم التنظيم كدروع بشرية بعد تجميعهم في منازل متجاورة.

رئيسة قضاء الموصل على موقعها في الفيسبوك أكدت انتشال فرق الدفاع المدني أكثر من 500 جثة، تعود لأطفال ونساء وشيوخ ورجال، ولا تزال عمليات انتشال الجثث مستمرة، وهناك أعداد كبيرة تحت الأنقاض.

أما الطوفان البشري انفجر بعد اقتراب القوات الأمنية من المناطق السكنية المكتظة بالمدنيين، هرباً من شدة المعارك في مناطقهم والجوع والعطش الذي فتك بهم، والبرد لأشهر طويلة من الحصار، وغلق جميع المنافذ، مانعاً إدخال المواد الغذائية لأكثر من 800 ألف إنسان أكثر من نصفهم أطفال؛ مما أدى إلى نفاد المؤن التي خزنوها أو صادرها تنظيم داعش بحجج قذرة، أجبر الكثير من الأهالي على أكل الحشائش والقطط والبحث في مكبات النفايات، علهم يجدون ما يسد رمق جوعهم الكافر.

وقال ناشطون موصليون إن بعض العوائل ماتوا جوعاً من بينهم أطفال لعدم توفر الحليب والأدوية، وكذلك بين كبار السن بسبب سوء التغذية والجفاف.
ومن وصل مخيمات النازحين ترى لحمه قد أكله الجوع، ولم يبق له إلا الجلد والعظم وعيون جاحظة.

لعشرات الأميال حفاة وتحت المطر والبرد مشى الأطفال والنساء والشيوخ وذوو الاحتياجات الخاصة، من مدينة الموصل إلى منطقة حمام العليل؛ حيث مخيمات النزوح، التي تفتقر إلى أبسط وسائل العيش الكريم؛ حيث قضى النازحون ليالي في العراء يفترشون الأرض ويلتحفون السماء.

ويقول الشاب عمر، أحد ناشطي الإغاثة التطوعية الذين هبوا لنجدة أهاليهم: رأيت في مخيمات النازحين أوضاعاً مأساوية موجعة يندى لها جبين الإنسانية .

على طول الطريق عربات يدفعها شباب يحملون جثث أهاليهم أو بقايا أشلائهم في أكياس لدفنهم .
أب يحتضن جثة ابنه في كيس أسود بعدما نزف حتى الموت، أم تقف مصدومة فقدت أولادها ولا تعلم إن كانوا أحياء أم أمواتاً.
أطفال يبكون من شدة الجوع، سامعاً أحد الأطفال يخبر القوات الأمنية أما أن تطعمونا أو تقتلونا.
طفل يرتجف، ثيابه مبللة، ويغطيها الوحل، مرتمياً على الطين بعدما أنهك جسده الضعيف الجوع والتعب، وقصص كثيرة لا تعد ولا تحصى كلها جرت على أرض الحدباء، ولا تزال مستمرة بوجع أكبر.

ونشر المرصد العراقي لحقوق الإنسان، حتى العشرين من مارس/آذار أنه بلغ عدد النازحين الذين وصلوا للمخيمات أكثر من 415 ألف نازح، توزعوا على مخيمات الجدعة 1 و2 و3 و4، والنركزلية وحمام العليل وحسن شام والقيارة – مدرج المطار- بالإضافة إلى ذهاب بعضهم لدى أقاربهم في مناطق الساحل الأيسر المحرر، بينما بلغ عدد الضحايا الذين تم الإبلاغ عنهم من قبل ذويهم الناجين من الجانب الأيمن خلال شهر 3864 قتيلاً، و22579 تلقوا العلاج في وحدات الطوارئ بالمخيمات، وتدمر أكثر من 10 آلاف وحدة سكنية، ونسبة الدمار فيها 45%.

كما قالت الأمم المتحدة: "الأسوأ لم يأتِ بعد" مع حصار 400 ألف في مدينة الموصل القديمة.

وذكرت: "بدأ الناس يحرقون أثاثاً وملابس قديمة ومنتجات بلاستيكية وأي شيء يمكنهم حرقه للتدفئة أثناء الليل؛ لأن الأمطار ما زالت غزيرة ودرجات الحرارة تنخفض كثيراً أثناء الليل".

بينما وصفت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين الوضع بـ"الأسوأ ولم يشهد له مثيل على الصعيد الإنساني".

حيث إلى الآن لم يتحرك العالم لنجدة أهل الموصل، بل لم يكتفوا حتى بالشجب والاستنكار لما يحدث فيها، ورغم كل المجازر والدمار والخراب، ومستقبلها المظلم وفقد أهلها أغلى ما يملكون أرواحاً وأموالاً، والمناشدات والصرخات التي يطلقونها لم يكترث أحد؛ إذ يطالبون بإعلانها مدينة منكوبة ووضعها تحت الحماية الدولية وإلا ستزهق أرواح أكثر ولا يبقى في المدينة حجر على حجر.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد