منذ حوالي شهرين من تاريخه، عرضت "الجزيرة" تحقيقاً استقصائياً يكشف تفاصيل عن تغلغل المخابرات الإسرائيلية في بريطانيا، تحت عنوان "اللوبي الإسرائيلي في لندن"، وقد أثار ضجة في بريطانيا، وبعد بثه طالب نواب محافظون بفتح تحقيق في القضية، وعلى أثرها، قدمت ماريا ستريزولو، مساعدة وزير التعليم البريطاني، استقالتها من منصبها بعد ظهورها في التحقيق مما كشف تآمرها لصالح جهات أجنبية.
في المقابل، منذ أيام، عرضت "الجزيرة" حلقة من برنامجها "ما خفي أعظم"، تحت عنوان "من أطلق الرصاصة الأولى؟"، تستقصي من خلاله وتحقق وِفق أدلة ووقائع ومعطيات عن الجهة التي أطلقت الرصاصة الأولى في الأحداث التي عصفت بمدينة صيدا في لبنان صيف عام 2013، عُرِفت فيما بعد بـ"معركة عبرا"، بين الجيش اللبناني وعناصر تابعة للشيخ الأسير المناهض للنظام السوري والتدخل الإيراني في لبنان.
وُجِّهت أصابع الاتهام دون أدنى شك لعناصر من "حزب الله" و"سرايا المقاومة" التابعة له بافتعال المعركة لصالحه، لم نسمع ردة فعل من السلطات اللبنانية ولا مطالبة بفتح تحقيق حول تورط ميليشيات غير نظامية في أحداث يجب أن يكون الجيش اللبناني والأجهزة الأمنية الرسمية المخولة الوحيدة التي يجب أن تعالج المشكلة، وهنا نطرح السؤال التالي: "هل يوجد حكم قانون في لبنان؟".
قبل الإجابة على السؤال، لا بد من رصد لحالة التطور السياسي في لبنان الذي أفضى إلى الحالة المأساوية التي نعيشها اليوم، كان أحد أهم أسباب الانحطاط فيه وقوع الدولة أسيرة نخب طائفية ميراثية مختلفة، وما نجم عنها من ضعف الدولة المركزية جراء المحاصصات، نتج عن حصر الزعامات بأمراء الحرب و"الميراثية السياسية" انتشار الفساد وانحطاط سياسي وازدياد التفاوت في الثروة وتركيزها بأيدي فئة صغيرة، وحرمان الحكومة من عوائدها.
من الممكن أن نسمي هذه الفئة "النخبة الريعية"، التي تستخدم نفوذها أو علاقاتها السياسية وصلاتها بأصحاب النفوذ للسيطرة على الدولة واستغلال سلطتها لإغناء نفسها.
خلّف ذلك شللاً سياسياً، فبسبب سعي هذه النخبة لتسلّم السلطة السياسية أصلاً كان امتلاك أسباب القوة التي تتيح لها الوصول إلى الريوع الاقتصادية، ولا يمكن إهمال عامل تنفيذ الأجندات الخارجية، وحتماً سيكون حكم القانون الضحية الأكبر.
يروى عن فلاسفة علم الاجتماع قولهم: "العدل أساس الدولة القوية"، هكذا في بريطانيا مثلاً. في لبنان، لم تعد الدولة توفر الحماية الكافية لمواطنيها، والمجتمع هالك وليس قوياً بما يكفي للحفاظ على النظام، ولا وجود تقريباً للمجتمع المدني المستقل الذي يمكن أن يقف في وجه الفساد.
شعر الضعيف في لبنان بالحاجة إلى ملاذ آمن في كنف شخص أقوى، هو "أمير الطائفة"، والأخير لم يتمكن بدوره من الحفاظ على مكانته أو ثروته أو حظوظه أو حتى ضمان سلامته إلا بتأمين دعم أتباعه المؤتمرين بأمره، بالترهيب والترغيب والتحشيد الطائفي والمذهبي.
في الحالة الطبيعية، حكم القانون هو مكون منفصل عن النظام السياسي، يضع حدوداً مقيدة لسلطة الدولة، وكوابح للسلطة التنفيذية حتى تبقى تعمل تحت مظلة القانون، يحق للسلطة السياسية تعزيز سلطتها بالعمل ضمن إطار القانون وباسمه، ولكن بالمقابل يمنعهم القانون من فعل ما يريدون، لمصلحة المجتمع ككل.
في لبنان وكثير من الدول النامية يوجد "حكم القانون"، ولكن المشكلة دائرة تطبيقه، وإذا أردنا تحديد من الذي يُطَبَّق عليهم القانون، لوجدنا الحالات الشاذة، خاصة مع استخدام السلاح غير الشرعي والمخدرات والاختلاسات وموارد الحكومة والسرقات والفساد لصالح النخبة الريعية لتمكين حكمها وسلطانها، هذا ما دعا إليه سقراط في جمهورية أفلاطون "عدالة عصابة اللصوص".
في لبنان، لا توجد كوابح قانونية أو ضوابط قضائية أو موانع شرعية تحد من تغطرس "أمراء الحرب"، وإن وُجِدت جميعها، فإن دائرة تطبيقها تنحصر بالضعيف الذي لم يلجأ ليستظل تحت مظلة القوي، ما سمح لهؤلاء "الأمراء" بمدى واسع للطغيان والاستبداد.
في لبنان، هناك قُطّاع طرق بمفهوم عصري جديد، هم السياسيون ورجال الأعمال المحسوبون عليهم، يختلفون عن النمط التقليدي بتمركزهم في محطة ثابتة، هي السلطة، لا تختلف دوافعهم عن قُطّاع الطرق المتجولين، يعلمون تماماً أنهم بتوفيرهم الأمن والاستقرار التمثيلي الظاهري، سيوفر لهم منافع عامة من رعيتهم، من نهبهم وإلزامهم بدفع الضرائب.
لا يمكن أن نعول حتى الآن على الشعب اللبناني الذي يزداد فقراً وشعوراً بالظلم بإحداث ثورة تصحيحية، صحيح أن الأرقام والإحصاءات والأرضية أصبحت ملائمة تماماً ومجهزة لحدوث ثورة عارمة ضد النخبة السلطوية الحاكمة، وصحيح أن مؤشرات "التحريك الاجتماعي"، من قراءة ومعرفة بالحقوق وعلم بالسياسة، أصبحت عالية مع استخدام صفحات التواصل الاجتماعي، ولكن هناك نقصاً في الانسجام بين مختلف الأطياف الشعبية، مع قدرة هائلة لمختلف الأحزاب بقيادة "أمراء الحرب"، على ارتهان المؤسسات الدينية لصالحها، حتى لو كانت – الأحزاب – علمانية؛ لتقوم بإشباع رعيتها بالانتماء للطائفة ورفع الحس الطائفي فيه، هذا وإن دلّ، فإنه يدلّ على اقترابنا من مرحلة عدم الاستقرار وغياب الأمن، وأننا بعيدون عن حدوث ثورة منظمة لها أهداف واضحة وثابتة.
لا يمكن أن ننتظر ردود فعل مسؤولة في لبنان بسبب فضيحة "من أطلق الرصاصة الأولى؟"، كما حدث في بريطانيا، فالحاكم هو القاضي والجلّاد، والضحية ضعيف لا حول له ولا قوة، ودائرة تطبيق القانون تستثني "أمراء الحرب" والزعامات السياسية، فمن ذا الذي سيطالب بمحاكمات عادلة، وتحقيق في تورط ميليشيات غير شرعية، بإمرة "أمراء الحرب"، يستغلون الحالة الطائفية والتحشيد الشعبي ليحققوا مآربهم الخاصة وأجندات خارجية بعيداً عن حكم القانون، وهم بعيدون عن دائرة تطبيقه؟!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.