اللحظة الأولى لثورة 25 يناير/كانون الثاني انطلقت معها جموع الثوار الأحرار من كل حدب وصوب، على تنوع مشاربهم الفكرية، تطالب بالتغيير لنظام مستبد بكل المعاني.
وقتها لم يفكر أحد في تحقيق مكاسب أو الاستحواذ على السلطة أو الالتفاف لإسقاط الغير وتشويه صورته.
حتى أعداء الثورة أصابهم نوع من الشلل الفكري الذي أصاب أولياءهم، فكان جل التفكير في استيعاب الصدمة ومعاودة الكرة، بالانقلاب عليها والقضاء على جذوتها.
وبعد مرور 6 سنوات على انطلاقتها كان لا بد من استعراض كشف حسابنا، نراجع فيه مكاسبنا وخسائرنا، وهل بالفعل كان صافي الحساب لصالحنا أم العكس وما الذي ينتظرنا مستقبلاً؟
وبين جنبات الانطلاقة والصدمة والانقلاب نفتش عن كشف حساب كل فصيل على حدة، في الطرح، والقيم، وضبط الاعتقاد، والحراك.
والحركة السلفية الحرة التي عاشت دهرها تريد الإصلاح الحقيقي والتغيير على أرض الواقع دون الوقوف عند حدود التنظير، كانت وما زالت فصيلاً له ثقله في تحريك الثورة وتحديد مساراتها.
وأعني مصطلح الحركة السلفية تحديداً: رواد التغيير للواقع المنضبطون بقواعد الفهم المتوارثة عن خير أتباع الأمة، من عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى وقتنا هذا (السلف الصالح).
وبهذا يخرج منه الاتجاهات النظرية العلمية، ما لم تسهم بنشاط علمي هادف للتغيير الفعلي والثورة.
وحقيقة فإن السلفية (القح) أو الواقعية، هي منهاج وحركة تغيير، وليست مجرد حكايات وسرد عن واقع خيرة القرون، أو انشغال بأحياء وتصحيح لتراث سلفي دون عمل بمضمونه وفهم لسياقات عصره، أو التزام شكلي بالإسلام المقبول من أعداء الإسلام ذاته.
وباستقراء واقع الثورة، فإن الحركة السلفية حققت عدة مكاسب تماماً كما أصابها بعض الخسائر.
وأهم هذه المكاسب أولاً: (انطلاق الحركة من صحيح المنهج)، فمن قاموا بالمشاركة في الثورة جلهم من أصحاب المنهج السلفي الخاص، غير المتهمين بالإرجاء، ولا بغلو الخوارج، وهذا دليل على صحة المنهج ووضوح الفكرة وقابليتها للمشاركة في رفع الظلم عن جمهور الأمة.
فإثارة الزوابع الدلالية الشرعية خاصة على الأمور المتعلقة بالسياسة كالمظاهرات والاعتصامات والمشاركة السياسية، كان غالب ديدن كل المنحرفين عن منهج الحركة السلفية، لتبرير الانبطاح للظلم والرضا بفتات الأنظمة المستبدة.
والعجيب كان في تأصيلهم لكفر الديمقراطية وحرمة المشاركين فيها، مع كون القائمين على هذه الأنظمة ولاة الأمور أصحاب السمع والطاعة المطلقة، فجمعوا بين النقيضين: نظام شرعي ونظم ممارسة غير شرعية للنظام ذاته!
ثانياً: قدرة الحركة السلفية على المنافسة السياسية الفاعلة وتنظيم الصفوف وفق آليات معاصرة، وهذه القدرة ظهرت في سرعة تكوين الأحزاب السلفية، وصياغة برامجها بما يتفق مع الرؤية العقدية، والتنافس السياسي من خلال آلية الانتخابات، بصورة أذهلت كل المتنافسين من غير الإسلاميين.
ثالثاً: ظهور قيادات شعبية لها القدرة على قيادة الجماهير وعرض قضايا الشريعة وتطبيقها بصورة مثالية، وعلى رأس هذه القيادات كان الشيخ حازم أبو إسماعيل، الذي كان له السبق في منازلة التيار العلماني وإنزال الهزائم الفكرية به وبيان ضحالته في مواجهة التيار الثوري الإسلامي.
علاوة على ظهور قيادات لها قبول شعبي ومثقفة وواعية مثل د. خالد سعيد، وخالد حربي وأحمد مولانا ولا تخلو محافظة من محافظات مصر من قادة سلفية واعية لها قبول شعبي.
رابعاً: تميز التيار الحركي السلفي الحداثي، الذي يرفع شعار "سلفية الاعتقاد عصرية المواجهة" عن التيارات التدجينية المغيبة التي لا ترى أي سبيل للعصرانية في إدارة الصراع ولا تملك أي حلول معاصرة.
وهذا الأمر ظهر بداية الثورة في تيار "سلفية كوستا"، الجبهة السلفية، وحركة حازمون، والائتلاف الإسلامي الحر، وحركة أحرار، وحركة أمناء السلفية وغيرها من الحركات السلفية التي قادها مثقفون وعلماء أصحاب رؤية ومنهج واضح للتغيير.
خامساً: الانتقال من مرحلة التنظير والتأطير إلى مرحلة الشعبية، وهذا عكس ما كانت حريصة عليه الأنظمة المستبدة في الفترات الماضية، والتي كان كل جهدها الإعلامي والأمني في عزل التيار السلفي وجعله داخل إطار انعزالي لا يخرج عن المسجد ولا يتعدى معتنقيه، مع الترويج لمفاهيم الغربة، وإهمال مفاهيم دفع الغربة، فتبقى حينها الحركة مجرد تنظيرات صعبة الفهم غير قابلة للقبول لصعوبتها.
لكن الثورة أحدثت نقلة نوعية في طرح المفاهيم السلفية بصورة سلسة وواضحة ومبتكرة، بعدها تحول التيار السلفي لتيار شعبي فاعل.
سادساً: تبيان قدرة الحركة السلفية على الائتلاف والتعامل الفاعل مع فقه الخلاف: ولعل هذا أوضح ما يكون في تجمع الجماعة الإسلامية والسلفية المستقلة وجماعة الإخوان والتنسيق فيما بينهم، وظهور تحالف دعم الشرعية من شتات مشايخ وعلماء السلفية.
إجمالي ما مضي كان من أهم مكاسب "الحركة السلفية"، لكن تبقى سؤالان: الأول ما هي أهم الخسائر؟ وهل المكاسب فاقت الخسائر أم ماذا؟
بالفعل خسرت الحركة السلفية في عدة ميادين، وخاصة في السنة الأخيرة من الثورة، كان أهمها:
أولاً: المجال الإعلامي وهو المجال الذي عجزت الحركة السلفية عن مجاراته لا بالإمكانيات المادية والبشرية، واستطاع الإعلام الانقلابي وضعها دائماً في حالة من الدفاع الفكري، والترهيب من قيادتها، ولم تمتلك الحركة أدوات فاعلة للمواجهة لا تقنياً ولا بشرياً.
ثانياً: البطء في تنظير النوازل، وهذا شيء مهم جداً لحركة انضبطت مسيرتها بالكتاب والسنة أو الدليل أولاً، فطرحت مسائل كانت سبباً في التأخر عن اتخاذ قرارات حاسمة، مثل تسليح الثورة، والموقف من رموز النظام القديم، وتحويل أموال الزكاة إلى العمل السياسي، والتحالف مع التيارات الثورية غير الإسلامية التوجه ولو مرحلياً.
ثالثاً: غلق الباب أمام التيار السلمي السياسي، وهو في حد ذاته مصيبة كبرى على الحركة؛ إذ لم يعد العمل السلمي ذا نفع، ولم يعد للتيارات الثورية مكان، وباتت التيارات الجهادية ذات أسهم عالية في قبولها من الشباب السلفي لإحداث التغيير (الذي فشلت فيه في السابق)، فعادت الدائرة المغلقة المخفقة للتداول مرة أخرى، فأساليب حرب العصابات لا تغير نظماً وأقصى ما تفعله تزعزع استقراره.
رابعاً: فشل التيار السلفي في وضع رؤية موحدة لما بعد الانقلاب، وتنازع فيما بينه في آلية الحراك السلمي، فضلاً عن المنازلة المسلحة، وباتت الحركة السلفية في أضعف مراحلها الدعوية بعد الانقلاب، وطوردت قياداتها القادرة على وضع رؤية وحلول، بين دول الشتات وغياهب السجون.
خامساً: زاد الضغط الأمني على الحركة بكافة أطيافها، وظهرت مشاكل فكرية واقتصادية واجتماعية جديدة، منها: ظهور التيار التكفيري الغالي، ومصادرة أموالهم وفقدان وظائفهم، وتهدد وجودهم داخل المجتمع وتشتتهم، وظهرت حالة من التفسخ الاجتماعي والعوز الاقتصادي.
سادساً: فقدان الصلة بين علماء الحركة السلفية وشبابها، ومن ثم سيحدث انقطاع لجيل كامل، ولن يتمكن أبناء الحركة من نقل الخبرات الماضية ولا الاسترشاد بها.
سابعاً: الدخول في التيه وهي مرحلة ما بعد الهجرة، والبحث عن حلول لإعادة فتح فكري جديد، وظهور أزمة هوية الأوطان والأوطان البديلة.
تبقى خاتمة الحساب لهذا الكشف الاستقرائي المتواضع، ويبقى سؤال صعب: هل فاقت المكاسب الخسائر؟ أم طغت الخسائر على المكاسب؟ حقيقة سيظل هذا السؤال الجدلي بلا إجابة حتى تتضح أكثر معالم هذه الحقبة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.