"سفينة طوافة فاخرة بحجم مدينة صغيرة تمخر باتجاه ميناء مداري؛ حيث يعيش الناس في أكواخ ذات أرضية ترابية، وغير مجهزة إلا بحفر تستعمل كمراحيض، طبيبة مسلمة متحجبة تقوم بعملها، سدود هيدروليكية ضخمة تغرق حقولاً واسعة؛ لكي تزود مصانع التصدير والمدينة الحديثة بالطاقة الممتدة خطوطها مباشرة فوق رؤوس الريفيين الفقراء الذين يعيشون في قرى غارقة في الظلام. رجال أعمال آسيويون يزورن معبداً بوذياً في طريقهم إلى زيارة مصنع، ينتج أحذية رياضية بعلامة تجارية أميركية مشهورة، أطفال شوارع حفاة يلمعون سيارة مرسيدس جديدة تقف خارج المباني العالية للحكومات والشركات".
يضعنا "تفاوت التنمية الاقتصادية والتغير الاجتماعي" هذا في أرجاء العالم كله أمام تناقضات وتباينات حادة، وإذ تبدو هذه التناقضات المشاهدة بعض الأحيان عصية على التوفيق، فإنها ليست إلا نماذج مصغرة من اللامساواة القائمة بين العالمين الموجودين على كوكبنا: ما يسمى العالم المتقدم، والعالم المتخلف، العالم الأول، والعالم الثالث، البلاد الفقيرة والبلاد الغنية، والانقسام الكبير ضمن كل دولة فقيرة هو أشد ترويعاً؛ لأن التباينات هنا شديدة الاقتراب بعضها من بعض.
ولذلك فإن ذلك التفاوت أنتج قضية جديدة، أو أنها تبدو كذلك، وهي قضية العولمة، وهي القضية التي باتت تشغل الآن مساحات واسعة من الفكر الإنساني المعاصر، ونتيجة لذلك فقد أفرزت تلك القضية الشائكة الكثير من الاتجاهات التي ينبغي أن نتناولها من منظور عقلاني شامل، يحيط بها من مختلف أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والبيئية والإعلامية والحضارية، بالإضافة إلى المنظور الإنساني الذي يقدم أطروحات متعددة للسياسات الليبرالية الحديثة التي تعتمد عليها العولمة، وترسم لنا صورة المستقبل بالعودة إلى الماضي السحيق للرأسمالية، وقد وجدت تلك الأفكار انعكاسها الواضح في السياسات الاقتصادية الليبرالية، التي تطبق الآن في مختلف دول العالم دون مشاركة الناس أو موافقتهم على تلك السياسات.
ذلك لأن هنالك من يعتقد أن هذه العولمة ما هي إلا نتيجة حتمية خلقتها سياسات معينة، بوعي وإرادة الحكومات والبرلمانات التي وقعت القوانين التي طبقت السياسات الليبرالية الجديدة، وألغت الحدود والحواجز أمام حركات تنقل السلع ورؤوس المال، وسحبت المكاسب التي حققها العمال والطبقات الوسطى، وانتهاء بالتوقيع على اتفاقية منظمة التجارة العالمية (الجات)، التي ستتولى العقوبات على من لا يذعن لسياسة حرية التجارة.
ففي كل هذه الأمور لم تكن هناك حتميات لا يمكن تجنبها، بل إرادات سياسية واعية بما تفعل، وعبرت عن مصلحة الشركات دولية النشاط.
وعلى ضوء ما سبق، سعت بعض الدول إلى ترشيد الرأسمالية في بلدانها، وعملت على ضبط عوامل تطور المجتمع والسلم الاجتماعي، وضرورة وجود طبقة اجتماعية متوسطة متحركة وحيوية، بحيث يكون هنالك اقتصاد فيه بدائل وخيارات متعددة، وضبطت من خلالها العملة النقدية.
وهذا ما يعكس نوعاً من التقارب الأميركي – الروسي في ظل نظام نقدي دولي جديد، ويعكس (ضمناً) حكمة الصين والهند وأوروبا في إيجاد روافع للتفاهم حول السياسات النقدية.
وهكذا نجد أن تلك السياسات ذات صلة مباشرة وغير مباشرة بالبعد السوسيولوجي للنظام الاقتصادي الجديد تكمن في المجتمع، لأسباب ما هو عليه، وكيفية تغييره، ويرى ماركس وأنجلز بأنها "تكمن في جذور أي وضع اجتماعي أو أي صراعات اجتماعية في العلاقات الاقتصادية".
ولذلك سعت المنظمات والهيئات الدولية والمراكز البحثية إلى دراسة تلك السياسات وأبعادها المختلفة التي جمعت بين كل ما هو فلسفي أو سياسي أو تاريخي أو أخلاقي، ومن جانب آخر، ما بين علوم سياسية طغت عليها البراغماتية والأداتية وشدة الارتباط بمشكلات الواقع، إلى درجة يتعذر معها التجريد والتعميم، وساهمت في طرح نظريات اجتماعية عامة، ووضع قوانين لتفسير الظواهر والتحولات الاجتماعية، ولكي لا تظل تلك النظريات مجرد استبصارات ذات طابع فوقي، كان لعمليات التحديث والحراك المجتمعي دورً مهم في بلورة صورة واضحة للسياقات الإجرائية لتلك النظريات، وتقديم تنبؤات يمكن الحكم على صحتها من بطلانها، إذا ما كانت في إطار سياقها الاجتماعي المناسب، وفي ظل الخطوط العريضة للنظرية أو النظريات ذات الصلة بتوجهاتها وأفكارها الناجمة عنها.
وتأسيساً على ذلك، فإن السياسات الرامية إلى تشكيل الوعي المجتمعي إزاء تلك السياسات الدولية والإقليمية في مجالات الاقتصاد والسياسة -في نظر مدرسة فرانكفورت- على سبيل المثال، "قادرة على التجديد والتصويب الذاتي، شريطة توافر درجة عالية من الشفافية من أجل الحفاظ على توافق النظام الاجتماعي، واحتواء التنوع الثقافي، وتضارب المصالح"، على النقيض من ذلك، يؤكد منظّرو ما بعد الحداثة "حتمية الصراع الطبقي واستمراره وعجز الآليات الاجتماعية عن استيعاب التنوع الثقافي والتوفيق بين مصالح الفئات الاجتماعية".
وهذا ما نجده في "سفينة فاخرة"، و"أكواخ ذات أرضية ترابية"، "طبيبة مسلمة متحجبة"، و"مصانع التصدير" في "قرى غارقة في الظلام" و"أحذية رياضية بعلامة تجارية أميركية مشهورة"، وهذا ما قد يرسم خريطة للتناقضات الاجتماعية في بلدان العالم المتقدم والمتخلف على حد سواء، من خلال إعمال الحد الأدنى من الخيال الجغرافي اللازم لاستيعاب ظاهرة تباين الثقافات في إطار الهوى السياسي الذي يقدم رؤية الأبعاد الثقافية في تناول الإشكالية، وانعكاساتها على ما يُسمى بمشروع الشرق الأوسط الكبير، ما بين التمركزية الأوروبية، وذلك التجنيس الثقافي الأميركي، انطلاقاً من كونها -بلدان الشرق الأوسط- على اختلاف ثقافاتها يمكن إخضاعها لنموذج موحد وعام على ضوء المسؤولية الاجتماعية والاعتبارات الأخلاقية، من خلال العلاقة المحورية بين المركز والمحيط الاجتماعي الذي أفرزها، وتفرزه تلك العلاقة لاستيعاب الفضاء الزماني والمكاني الملائم لأي توجهات شرق أوسطية، ويمكن من خلالها تحديد آليات التوليد المعرفي للسياسات الدولية حول أبرز ملامح تلك التوجهات من حيث التصور (النظري) والواقع (الإجرائي)، في ظل معطيات واضحة تستند على التنوع الثقافي، وإقامة التحالفات والمساومة السياسية، وهكذا ومع تزايد المد العولمي، أضيف الدافع الاقتصادي إلى مسألة التنوع الثقافي، بهدف جعل أسواق البلدان النامية أكثر تقبلاً لمنتجات (اقتصاد المعرفة) التي قد تتطلب تجنيساً ثقافياً يسمح بسهولة نفاذ هذه المنتجات إلى هذه الأسواق.
* نقلاً عن إضاءات اتساقاً وتفاعلاً مع تدوينة سابقة (سوسيولوجيا المعرفة).
* للتأمل:
"إن العالم كله قد أخذ يتحول إلى ما كان عليه فيما مضى من الزمن"!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.