هنا في تونس، لم تنجح الثورة في أن تقنع الناس بأنّ السياسة ليست حرفة المجرمين وحدَهُم، بل لعلّها قد عمّقت هذه النظرة وزادتها تعقيداً، لا لفكرة الثورة في ذاتها، بل لما ترتّب عليها من خيانات متكرّرة، ومن سقوط أقنعةِ سياسيّين وإعلاميّين ونقابيّين كثيرين، ظنّهم الشارع التونسي على خير.
وحيث إنّنا لم نكن أبداً معزولين عن الأحداث العالميّة والمتعلّقة بالعالم الإسلامي تحديداً، فإنّ ما عاشته بقيّة أجزاء الأمّة أيضاً من سقطاتٍ سياسيّة بعد الثورة كان له تأثيره السلبيّ أيضاً علينا.
يحاول السياسيّون ها هنا تقزيم المشكل، أو ربّما يراه معظمهم مشكلاً قزماً فعلياً؛ لأنّ معظمهم قد مارس السياسة بين حيطان غرف الدرس الباردة والاستوديوهات المغلقة، ولكنّنا كلّما عايشنا الناس في تفاصيلهم اليوميّة: في محطّات النقل العموميّ، والمستشفيات، وساحات الجامعة، والمساجد، نستطيع أن نلمس إلى أيّ مدى نعاني في هذا البلد الصغير أزمة ثقةٍ في السياسيّين جميعهم.
في مدينتي المجاورة لمسقط رأس المخلوع بن عليّ، اعتاد الناس على شكل واحد من السياسيّين: "سياسيّي الشعبة" الذين تتلخّص أدوارهم في نقل التقارير الكيديّة لمركز الأمن وفي مراقبة نوايا الناس، لعلّها تحيد عن حبّ الحزب الحاكم والولاء للطاغية.
ومع أنّه قد قامت في هذا البلد ثورة، إلّا أنّه ما زال يحدث إلى اليوم أن تستوقفني إحدى نسوة الحيّ البسيط لتخوض معي ذات الحوار الذي سبقتها إليه بقية الجارات:
– (في ذعر) بنيّتي، بلغني أنّك تشتغلين في السياسة.
– (ضاحكة) نعم يا خالة، ألم نكن متّفقتين في الأفكار والتصوّرات؟
– نعم، ولكن ما شأن هذا بالسياسة، السياسة ليست لأمثالنا، وأنت فتاةٌ عاقلة.
– إن لم نكترث نحن لحالنا ونعمل لإصلاحه فمن سيبقى له غير القوّادة والمتسلّقين والانتهازيّين؟
– (تمازحني بخبث مليح) حسنٌ إذاً لم تجدي وظيفة بعد؟ لم تجدي زوجاً بعد؟
أبتعدُ ضاحكة وتتركني هي الأخرى وهي تغدق عليّ بدعوات الخير التي تحفظها كلّ الأمّهات في هذا البلد عن ظهر قلب.
في الوقفات الاحتجاجيّة والمظاهرات الشعبيّة، يندهش الأصدقاء الذين أكون قد تعرّفت عليهم لفرط تردّد تواجدنا في نفس الوقفات الاحتجاجيّة: "حقاً؟ متحزّبة؟ تمارسين السياسة إذاً"، تمتلئ أعينهم بالشكّ وهم يتحدّثون إلى السياسيّين (رغم أنّهم يمارسون السياسة فعلياً برعايتهم لشؤون الناس)، أكاد أسمعهم يرددون ذات الجملة التي يتداولونها في جلساتهم الخاصة؛ حيث تنطق بها أعينهم دون شفاههم: "من تحزّب خان".
أحاول إزاحة الضبابيّة عن الحقيقة، وأذكّر بأنّني وبقيّة الأصدقاء "المتحزّبين" ننصر هذه القضايا انطلاقاً من قناعاتنا العقائديّة التي تترجم إلى تصوّرات سياسيّة، أذكّر بأنّني أنتمي إلى جماعة نحمل فيها جميعُنا نفس الأفكار والتصوّرات وأنّ التبعيّة العمياء ستبقى الاستثناء رغم انتشارها، فيذكّرونني بأسماء الشباب الذين خانوا أفكارهم وقناعاتهم لأجل سياسات أحزابهم، فأسأل وما زلت أفعل إلى اليوم: هل يكمن الإشكال في أنّه ما زالت تتأسّس الأحزاب عندنا على أساس الولاءات للأشخاص والتصوّرات العاطفيّة والمصالح الفرديّة لا على أساس الأفكار الواضحة والمشاريع العملية، إلى درجةٍ تحوّلت فيها الأحزاب إلى مؤسّسات ربحيّة ظرفيّة يكون فيها الناشطون موظّفين بأجور لتحقيق مهام معيّنة؟ أم يكمن الإشكال فعلاً في إقامة أحزاب تجتمع على فكرة وفي العمل على تطبيق تصوّراتنا وفق هذه الأفكار؟
وإلى أيّ مدى نكون جاديّن في التغيير إذا ما اعتزلنا السياسة في الوقت الذي صار فيه جليّاً -سياسيّاً ودينيّاً- وجوب إيجاد جماعات وأحزاب للمحاسبة ولتفعيل التصوّرات والأفكار لإيجاد تغيير فعلي؟
لا أجد إجابة على تساؤلي عادة..
يعود الشباب المحبط إلى منازلهم ينتظرون أوّل حادثة تؤكّد خيانة بعض الأصدقاء السياسيّين لمرجعيّاتهم وأفكارهم؛ ليكتبوا على صفحات مواقعهم الاجتماعيّ: من تحزّب خان.
في نقاط الحوار في الساحات العامّة، وخاصّة بعد سنواتٍ من الثورة، أصبح الناس لا يجدون بدّاً من الإعلان عن هواجسهم كشكل من أشكال التنفيس، فتجد نفسك كشاب يصرّ على العمل السياسيّ متّهماً منذ البداية بأنّك مشروعُ متاجرٍ بالدين، وأنّك ستستغلّ تعلّق الناس بدينهم لتصل إلى الكرسيّ، ومن ثمّ ستتنكّر له كما يفعلُ كلّ السياسيين.
سيبحثون في تفاصيل حديثك وفي لمعة الذكاء في عينيْك عمّا يدلّ على انتمائك لجوقة الفاسدين، وإلّا فإنّك تجدهم يقدّرون طول لحيتك أو خمارك ونسبة الغضب في كلماتك؛ ليتّهموك بأنّك ستمارس الإجرام السياسيّ باسم الإسلام، سيحاولون تجريدك من الإسلام؛ ليستطيعوا اتّهامك والتشكيك في نواياك في كلامك ومشروعك دونما حرج؛ حيث إنّ نيّة السياسيّ مستباحة حتّى يثبت ما يخالف ذلك.
أسرّت إليّ سيّدة يبدو عليها الوقار ذات مرّة بأنها قد تعبت من تجرّع الكذب والنفاق، وأنّها تشعر أنّ السوء والفساد صارا يقتحمان علينا حجرات نومنا وأحلامنا؛ وحيث إنّه لم يبقَ غير الإسلام فكراً نراهن على رقيّه وسماحته وعدله، فهي تخيّر ألا تخوض فيه عند الحديث عن السياسة "القذرة" فتُبقي على قداسته بهذا الشكل.
ورغم وجه المرأة المُتعب فإنّني لم أجد إلّا أن أسأل: هل نستطيع الإبقاء فعلاً على قداسة الإسلام إذا ما عزلناه عن معترك الحياة؟ كيف يكون الإسلام مقدّساً إذا ما أقنعنا أنفسنا أنّه سنّ القوانين والتشريعات الدقيقة والمتشعّبة لضبط كيفيّة معاملة الناس الاجتماعيّة والعائليّة دون أن يعطي اهتماماً لمعاملة الحاكم للمحكوم وللتصرّف في أموال الناس وكيفيّة حيازتها وتوزيعها كما الزكاة والصدقات وغير ذلك؟
كيف نقدّس تشريعاً يحاسب على النظرة والشتم والهمز واللمز يتغاضى عن قتل الشعوب وتجويعها وهتك كرامتها؟
وإذا ما حافظنا على الموقف العاطفي السلبيّ من العمل السياسيّ، كيف إذاً نحلم بتغيير الغد ونحن نعتزل النظر في السياسات التعليمية والاقتصادية وغيرها ممّا لا يتحدّد إلّا من خلال العمل السياسيّ؟
بمجرّد أن تقرّر، في تونس، التصدّر للعمل السياسيّ، تكون قد قرّرت المواجهة مع موقف عاطفي مركّب يجتمع على: إحساس عميق وعنيف بالإحباط تجاه السياسيين، خوف من تكرّر الخذلان والوجع يجعلهم يتجنّبون اقتراف الأمل مجدّداً، إحساسٌ بالصدمة تجاه مدى عمق هاوية الانحطاط السياسيّ تجعلهم يهربون من كلّ "متورّط سياسيّ" كما يهرب الناس من المصاب بالجّرب.
كان ختام حديثي مع السيّدة أن سألتني بعد صمتِ برهة "ما الضامن أنه لن يتجدّد استغلالنا وأنّ التصوّرات ستتحوّل فعلاً إلى واقع؟".
وأحسبُ أنّه لا ضامن في أن يكون لنا غدٌ أفضل إلّا التسلّح بالوعي الجماعيّ، الوعي الذي يجعلنا نصرّ على وجوب الدفاع عن أفكارنا وعن النزاهة في ساحة حربٍ صار مباحاً أن تُستَعمل فيها كلّ الأسلحة المعارضة للمبدأ وللإنسانيّة ولغاية السياسة، بتفويض أمميّ/ دوليّ.
وحده الوعيُ بالإسلام وأبعاده وطرحه كمشروع متكامل، وببقيّة المشاريع السياسيّة المطروحة هو ما يجعلنا قادرين على تمييز الغثّ من السمين بعيداً عن التلاعب الإعلاميّ والخطابات الخشبية الجوفاء وألاعيب الانتهازيّين.
ووحده الوعي بالأفكار يجعلنا قادرين كمجتمع على مواجهة المنقلبين على أفكارنا والمتلوّنين وتمييز اختلال الكفّة وردّها إلى توازنها.
حين نكون قادرين على مواجهة هذا الضغط المجتمعيّ والصبر عليه لتطهير الساحة السياسيّة ممّا علق بها، وللمحاربة من أجل إثباتِ شرعيّة التدافع النزيه لإعلاء الحقّ، وحين يعتزل الشباب الغاضب كراسي المقاهي ومنابر السخرية ليتحوّلوا إلى العمل الجادّ المبنيّ على الثقافة والوعي، سنكون قادرين على إثباتِ أنّ السياسة بوصفها رعاية شؤون الناس يمكن أن تعود إلى أصلها ويمكن أن تُخاض في منأى عن الأساليب الرأسمالية المبتدعة، بل يمكن فعلاً أن تكون تجسيداً لرقيّ الإنسانيّة حين تصنع واقعاً سياسيّاً راقياً ومنظّماً يقدّم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد.
أما الحياد والهربُ من المعارك، مهما اختلفت الأعذار، فيظلّان أبداً شكلاً من أشكال الظُلم التي قد لا نلمسها مباشرة، ولكنّنا نلحظ أثرها كلّما "تكاثر الأكلة على قصعتنا".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.