القوة من أجل البقاء “1”

لا تتوقف المسألة هنا، ففي عالم السياسة أو عالم القوّة، لا يجب الاكتفاء بحد مُعين من القوّة، فوقوفك عن تحصيل المزيد من القوّة يعني أن نموّك قد توقف في الوقت الذي ينمو فيه الآخرون من حولك، فإذا ما نجح هؤلاء الآخرون في تحصيل قوّة بمقدار أعلى منك تتحول قوتك إلى ضعف، حتى ولو لم ينقص منها شيء.

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/16 الساعة 03:57 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/16 الساعة 03:57 بتوقيت غرينتش

قوّتك هي حدود حرّيتك في التصرف، هي مدى استقلاليتك، وقوتك بالنسبة لغيرك هي حدود حريتك في التصرّف معه، ومدى استقلاليتك أمامه، وهل أنت تابع له وإلى أي درجة؟ أم هو التابع لك وإلى أي درجة؟

ما سبق محاولة من محاولات كثيرة لتعريف "القوّة" في العلاقات الدولية، السؤال الذي شغل علماء السياسة طوال التاريخ، وخاصة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية التي لم يفصلها عن الحرب الأولى "العظمى" سوى بضع سنوات، كان الجميع يخشى من صدمة وقوع حرب عالمية ثالثة، فنبعت أهمية التساؤل عن القوّة التي كانت لا شك أحد أهم العوامل في إطلاق الحرب، حين شعرت إحدى القوى أنها تمتلك قوّة أكبر من خصومها، وأنها تستطيع الانتصار عليهم.

ورغم اختلافات التعريفات فإنها كانت تدور حول قدرة طرف في التأثير على الطرف الآخر، فقوة دولة ما هي قدرتها على التأثير في سلوك الدول الأخرى، أو التحكم في سلوكها، واختلف كذلك حول كون القوّة هدفاً في حد ذاتها أم أنها مُجرّد وسيلة لتحقيق غاية ما، وفي هذا المجال تحدث "هانز جي مورجانثو" عن أن القوّة في حد ذاتها قد تُمثل قيمة مرغوباً فيها، تماماً مثل سعي رجال الأعمال إلى استثمار أموالهم بهدف تحقيق المزيد من الأرباح المالية الإضافية، وهكذا من المفترض في أي سياسي، سواء كان شخصاً أو حزباً أو دولةً، الحفاظ على ما يكتسبه من قوّة بهدف تحقيق المزيد من القوّة للصمود في مواجهة الأطراف المعادية له، سواء كان ذلك في إطار التنافس الانتخابي داخل الدولة أو التنافس على المزيد من مكتسبات القوّة، وإتاحة المزيد من الخيارات أمام الدولة في مواجهة الدول الأخرى.

لا تتوقف المسألة هنا، ففي عالم السياسة أو عالم القوّة، لا يجب الاكتفاء بحد مُعين من القوّة، فوقوفك عن تحصيل المزيد من القوّة يعني أن نموّك قد توقف في الوقت الذي ينمو فيه الآخرون من حولك، فإذا ما نجح هؤلاء الآخرون في تحصيل قوّة بمقدار أعلى منك تتحول قوتك إلى ضعف، حتى ولو لم ينقص منها شيء.

لا تكمن "القوّة" في مجرد النمو الاقتصادي وبناء اقتصاد قوي يعتمد على نهضة صناعية وزراعية، وإصلاح النظام السياسي من أي خلل قد يؤثر في استقراره، وبناء قوة عسكرية تعتمد على الصناعة المحلية، وبناء ترسانة نووية ضخمة، ليست هذه هي "القوة"، فالقوة كما يراها "مورجانثو" في أحد تعريفاته لها في العلاقات الدولية، أنها علاقة نفسية بين الدول، فربما تكون الدولة "أ" أضعف من الدولة "ب"، لكنها نفسياً تسعى للنهوض، ولديها ما يُعينها على ذلك، ولديها ما يجعل الدولة "ب" تُفكر ألف مرّة قبل الاعتداء عليها مباشرةً نتيجة ما ستتعرّض له من خسائر.

فقبل كل شيء لا بد أن تتوفر "النيّة" لنيل القوّة وإتاحة المزيد من الخيارات لنيل الاستقلال الكامل، فإذا كانت الدولة "أ" مقتنعة بأنها أضعف من الدولة "ب" وأن 99% من أوراق اللعبة الدولية في يدها، فلا مجال هنا للحديث عن "نيّة" أو "قوّة" أو "حرية" أو "استقلال"، فهذه الحالة تُشبه إلى حد كبير حالة فتاة أدركت أن مصيرها أمام أحد البلطجية هو "الاغتصاب الكامل ما عدا 1%"، عندما تصل هذه الفتاة إلى تلك القناعة فإنها لن تُقاوم ولن تحاول، وفي الغالب ستُفضل عن قناعة الاستمتاع بدلاً من المقاومة التي لا طائل منها.

ليست "القوة" مجرد اجتماع مجموعة من العوامل مثل الصناعة والاقتصاد والتسليح وغيرها، كما ‏أنها ليست مجرد وجود "نيّة" أو "سعي" للنهوض والاستقلال ومن ثَم بسط النفوذ والتوسع، فهي ‏توافق وتوازن بين الاتجاهين.‏

وإن قيام أي قوّة في أي بقعة على الأرض يؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على القوى في بقعة أخرى بعيدة كل البعد عنها، وبالنظر سريعاً على بانوراما الأحداث التاريخية (الماضي) والسياسية (الحاضر) واستقراء المستقبل، يُلاحظ أن عملية التأثير والتأثُر هذه تزداد قوة وسرعة مع استمرار الزمن في حركته الهُلامية تجاه المجهول، وهذا ما سنستفيض فيه في هذه السلسلة من التدوينات.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد