لندَع التفكير السائد جانباً عن مدى بشاعة الحرب وسلبياتها التي تصنع من الحياة دماراً، لنكن واقعيين أكثر، ولننظر إليها بعمق أكبر، لماذا جاءت الحرب؟ من دعاها إلينا؟ هي حتماً ضرورة، وهي حتماً نتاج أيدينا، جاءت تطهرنا أكثر، تصفعنا بألم لنستيقظ من غفلتنا المغفلة تلك.
عندما يهرم الجسد ويُهمل تأتيه الأمراض من كل حدبٍ وصوب، تماماً كما هو حال جسد هذه الأرض العارية، لماذا كففنا عن سقايتها بما هو خيرٌ لها ولنا؟ كم مرّة أخذت تستغيث في أعماقها كي لا نحرض تلك الكتلة السرطانية "الحرب" على النمو في أحشائها ولم نسمع، ولم نعِ خطورة هذا الورم، حتى استيقظنا على حقن كيميائية موجعة تحرق كل ما بنيناه من أحلام على هذه الأرض المريضة.
ورغم الألم والدمار والأرواح التي تفقد وكل ما يجري من مآسٍ ربما اعتقدنا أنها الأفظع على الإطلاق، ورغم الأنقاض والأشلاء المرمية على قارعة الطرقات، فإن ثمّة أملاً ما ينمو على الضفة الأخرى من هذه الفوضى العارمة، هذا الأمل ترعرع في أحضان الحرب وأزهر عنها، تماماً كثقب صغير منسي في مساحة ظلماء، يسرب منه شعاع من نور يعيد لنا البصر والحياة عند النظر من خلاله.
هذا الأمل لا بد من وجوده في كل الظروف القاسية، ولا سيما الحرب، مهما بلغت الحرب من شدة وقسوة، يزهر عنها شيء ما.
في أحد التجمعات الطلابية التي كنت أنتمي إليها في مدينة إسطنبول التركية، لفت انتباهي شاب صغير في مقتبل العمر، كان بريق عينيه لا يغادر ذهني أبداً، ذكّرني بنور هذا الثقب المنسي، إلى أن صادفته في نشاط طلابي كان مقعده يدنو من مقعدي، وقد تسنى لي الحديث معه، كان يصغرنا جميعاً بالعمر، لهذا لفت انتباهي وجوده بيننا، استمعت لقصته، وكم عانى بسبب الحرب التي تدور في موطننا الأم "سوريا"، وقد كلّمنا عن نفسه في تلك الآونة القاسية، كان الجميع من حولي ينادونه بالمخترع الصغير، أدهشني هذا النداء، لم يخطر في بالي لثانية أنه مخترعٌ حقيقي، اعتقدت أنها مجرد مزحة بينه وبين رفاق المجموعة، إلى أن حضرت له ندوة علمية قصيرة تحدث فيها عن اختراعاته في فرع الفيزياء، وكم عانى من الإهمال في موطنه قبل الحرب، وليت الأمر اقتصر على الإهمال فحسب، وإنما تعرض للاعتقال مرات عدة فقط لسؤاله عن بعض الحقائق بشأن النفايات النووية.
ليس الغرض من طرحي لهذه القضية الخوض في مجريات أحداث قصة ذاك الشاب اليافع، وإنما بث روح الأمل في نفوس تلك الأعين التي تشتعل بها نيران الحرب الدائرة في كل رقعة مريضة من هذه الأرض.
لولا الحرب لما كان هذا الشاب وصل إلى القمة، كان مدفوناً تحت الغبار الذي لم ننفضه بأيدينا أيام غفلتنا، لتأتي الحرب وتنفضه بذاتها، هذا الشاب هو عينة من عينات كثر برزت نتيجة الاستيقاظ من غفلة صنعها الإهمال واللامسؤولية.
كنت وما زلت أكثر إصراراً على رؤية النصف الممتلئ من الكأس، ولا آبه بذاك الفارغ، فلن يروي ظمئي يوماً، رغم الألم هناك أملٌ جميل ينتظرنا ولو بعد حين، وإن طالت الحروب والنزاعات، هناك ثقوبٌ تشرق في الضفة الأخرى، لن أذهب بعيداً بإعطاء النماذج الناجحة نتيجة الحرب، يكفي بنا القول "غزّة الصمود"؛ لتشرق في الأعين والوجوه ابتسامة جديدة مشرقة، تلك الرقعة الصغيرة من الأرض تشهد أشنع الحروب، ورغم هذا لا تكف عن التلألؤ.
مهما عصفت بنا رياح الأيام من سوء يجب التطلع إلى الأفق البعيد المزدهي بألوان الطيف، وسط آهات الأطفال والنساء والمعتقلين؛ لنتذكر جميعنا أننا قصّرنا يوماً تجاه أنفسنا، ونحن من مهدنا الطريق ووضعنا السجاد الأحمر لاستقبال هذه الحرب غير المرحب بها.
عندما تهرم الأنفس من الداخل وتصبح الكراهية وحب الذات سائدتين على حب الغير، ويستشري الفساد في المجتمع، تقول النبوءة إن حرباً ما تحوم في الأجواء وستقع على رؤوس هؤلاء البشريين.
لن يرفع الله بلاء الحرب حتى تطهر النفوس وتخرج من قوقعة الأنانية وتعود لأصل وجودها على هذه الأرض "الإنسان هو خليفة الله على الأرض وجد لإعمارها وبنائها لا لهدمها وسفك الدماء بها"، عندما تتحقق هذه المعادلة البسيطة مع الأمل الذي ينمو داخل أعشاش الحرب الرّثة؛ ليعيد الضوء إلى عيوننا، عندها فقط ستنجلي الحروب وتزهر الأرض معلنةً ولادةَ حضارة جديدة.
سنتحلى بالأمل وسنزهر من قلب الأنقاض وننير الدنيا بعقولنا المتوهجة علّ الحرب تخجل.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.