و الماضي بآلامه وجراحه، هو الماضي بقسوة الصنم فيه، وغطرسة الدولة التي من المفروض أن تكون الركن الآمِن واليد الحنون الممتدة طوعاً لكل مَن ضاقت به السبل.
هو الماضي الذي تحاول هيئة الحقيقة والكرامة (هيئة حكومية مستقلة مهمتها الإشراف على مسار العدالة الانتقالية في تونس ما بعد ثورة 2011)، من خلال جلسات الاستماع العلنية التي انبجس ضوؤها ذات مساء من شهر ديسمبر/كانون الأول 2016، فكانت اعترافات منتصف الليل الأخير تتزاحم في منتصفه الأول؛ لينطلق التونسيون والتونسيات من ضحايا الظلم والقهر والمحَن من هتك الأسرار وخلع الستائر البالية التي تحجب عنهم هم أولاً صوراً عن أنفسهم يتجاهلونها، صوراً تشكل جزءاً من حلقات تاريخهم الذي يعلمونه في الصمت ويتجاهلونه في الضوضاء، صوراً يرونها حينما يلف الظلام مدائنهم، ولا يُبقي سوى نسمات الليل تأتي من المجهول لتنصرف إليه.
ذاك الكم الهائل من الصور والأحاسيس أدخله ضحايا الاستبداد طوعاً وكرهاً إلى سراديب الذات الرقيبة حتى جاءت ثورة يناير/كانون الثاني 2011 في تونس؛ لتحرر الجداول وتحطم حواجز الخوف حيناً، وتدك القلاع الوهمية للأنا المتعالي أحياناً، فيرتفع صوت بسمة البلعي: أمَّاه.. أماه لقد جئت على كبر أجدد أحلام.
فتاة زاهية بالحياة تنشد طفلاً يناديها: أمي.. أمي، فيناديها بأعلى صوته (السامي):
أماه.. أماه لقد دمروني.. لقد دكوا حصوني.. هم قصرا جندوني.. هم في السجون رموني.. يا أمي لقد عذبوني.. هرسلوني.. ثم.. آه آه يا الله هكذا نطقت وريدة لقد قتلوه يا الله، ابنك يا بسمة قتلوه على الصليب ما علقوه.. بالرصاص غدراً أخذوه.. فاختلط دمه بحليب إخوته وتراب بني جلدته.
تتداخل وتتعالى الأصوات ولعل الأقرب منها صوت فاطمة والدة كمال المطماطي، قتلوه؟ هل صحيح أنهم قتلوه؟ إذاً أين دفنوه؟ أيعقل أن يكون في الخرسانة قد (دغروه)؟
آه يا أيها الزمن الأخرس لسنوات ها قد نطق (الكريستال)، ولا يزال الناطق والمنطوق فيك أوفياء، هكذا أعلنها جيلبار نقاش بعدما أسس لها اليوسفي حمادي (غرساً) أصله ثابت في أرض الخضراء وفروعه تمتد من 1956 إلى 2013، مروراً بالقبائل يساراً ويميناً، وحتى مَن كان على الثغور من السفراء.
هكذا كانت آلة القمع تدور على شاكلة (جمل بروطة)، دوراناً يمتد في الزمان والمكان لينفث وراءه غبار الاغتصاب والقتل وتدمير الذات، بل حتى الأحلام في خلجات الأفئدة.
ست جلسات علنية عقدتها هيئة الحقيقة والكرامة، فهل كانت كفيلة بتحقيق أهدافها في بعدين أساسيين؛ أولهما إشباع رغبة ذاتية تتوق للخروج من سجن الأنا المتعالي المظلم إلى فسحة النور العلنية مع مَن كان بما هو الأنا الكائن، وثانيهما كشف المستور المغمور الذي سعت قوى الظلامية الديكتاتورية طمسه من خلال ما كدست عليه من الكبت والحصار المقنن بالنصوص والمناشير.
أكاد أجزم أن لا هذا ولا ذاك قد تحقق واكتمل، وربما هذه قناعة لدى الساهرين على هذا المسار من خلال برمجتهم لجلسات استماع علنية أخرى أيام 10 – 11 – 24 مارس/آذار 2017 حول انتهاكات حرية المرأة وانتهاكات حرية الإنترنت؛ لتكون الجلسة الأخيرة من هذه الدفعة حول الانتهاكات في فترة الاستعمار.
نعم رغم الألم ورغم أن الجرح لم يندمل سوف يبقى الشعار الموحَّد بين الضحايا وهيئة الحقيقة والكرامة وأنصار العدالة الانتقالية في تونس: "إن الحقيقة مهما كانت مزعجة فهي أفضل بكثير من كل أشكال الوهم المريح".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.