عن ضرورة المصالحة “6”| اللواء أحمد رأفت مانديلا‏

ما ذُكر آنفاً من دفاع اللواء رأفت المستميت عن المصالحة والتشديد على مَن يحاول العبث ضدها، يؤكد بديهياً وجود أعداء ومعارضين لها، وإذ لا يجب أن يكون المعارض بالضرورة من أرباب المصالح الشخصية من وراء ذلك الصراع -على الرغم من واقعية وجودها حتماً- إذ تقوى أيضاً افتراضات الرغبة في الانتقام لرجال الشرطة الذين أُصيبوا أو ذهبوا ضحية تلك العمليات الإرهابية.

عربي بوست
تم النشر: 2017/03/09 الساعة 01:30 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/03/09 الساعة 01:30 بتوقيت غرينتش

"ماذا لو أن الصنديد الذي ألقى القبض على الصبي (أ.أ.ش)، البالغ من العمر ستة عشر عاماً، أخذه من يده وذهب به لأقرب بقّال واشترى له شيكولاتة بنصف جنيه وأعطاها له، وقال له: عُد إلى منزلك ولا تأتِ إلى هنا في هذه المظاهرات مرة أخرى حرصاً على حياتك، وبلّغ سلامنا لأبيك، فنحن نعلم أنه مسجون في سجون تركيا، وحالته الصحية حرجة، وليس بوسعنا شيء نفعله أو نقدمه له سوى أن نحافظ عليكم هنا، ولا نؤذيكم حتى وإن كنتم لا تؤيدون النظام القائم؟".

بهذه المقدمة بدأ الأستاذ حسن عثمان، وهو كاتب تبدو من كتاباته علاقته بما يعرف بالجماعة الإسلامية، ذاكراً بعد ذلك أن ما تخيَّله في مقدمته كان فعلاً شبه يومي للواء أحمد رأفت مع أبناء قيادات الجماعة التي غرقت في أوحال التكفير والاغتيالات حتى أعلنوا المراجعة في أواخر التسعينات من القرن الماضي، والتي كادت تذهب أدراج الرياح لولا أن تلقاها اللواء رأفت بالتصديق والدفاع عنها أمام رؤسائه ومرؤوسيه في جهاز أمن الدولة، حتى أقنع الكثير منهم بها، ثم تولى بعد ذلك الملف كاملاً هو ورفاقه؛ ليصبح المهندس الحقيقي للمصالحة بعد سنوات من العنف والمواجهات المسلحة مع الجماعة، وينقلب مواجهاً لمدارس التعذيب ضد أفرادها في الجهاز حتى كان يمر في أسابيع قليلة هو ومساعدوه على معظم سجون الدولة ناصحاً تارة وآمراً تارة، ومهدداً تارة أُخرى كلَّ مَن ينتهج ذلك النهج وكل من يحاول من قريب أو بعيد إفساد عملية المصالحة والتواطؤ عليها.

الجدير بالذكر أن اللواء أحمد رأفت كان من أشرس المحاربين للجماعة في سنوات الإرهاب، وبينه وبينها حلقات دماء، إحداها حين قتلوا رئيسه اللواء رؤوف خيرت، الذي حمل جثمانه بيديه في جنازته، ثم نال ثأره بتصفية أحد قياديي الجماعة طلعت ياسين، الذي يقال إنه مَن وجَّه الأوامر بعملية الاغتيال.

لكن الدكتور ناجح إبراهيم يحكي لنا أمراً آخر عن اللواء رأفت، حين سأله عمَّا حمله على المخاطرة والدفاع المستميت لأجل إتمام عملية المصالحة؛ إذ يذكر على لسانه أن اللواء تيقن حين حمل جثمان أستاذه ومعلمه أن طريق الدماء والسجون والاعتقالات لا جدوى منه، وأنه لا بد من طريق آخر يحل المشكلة من جذورها.

وإذ كما ذكرنا آنفاً أن اللواء بعد حادثة الاغتيال قد سعى وانتصر في ثأره من قتلة قائده، فإنه يتبين لنا الآتي:

1- أن تلك القناعة المذكورة لم تكن من باب الجبن والخنوع، إنما من باب العقل والرشد، حتى ولو كانت بعد أحداث صعبة كبَّدتهم من الخسائر الكثير، فإن التأخر خير من الجمود، وإذ لم تكن توجد حينها أية معالمٍ ما لهذا "الطريق الآخر"، لكنه بالتأكيد غير مألوف، وأنه قد تبلور استعداداً ما لسلوكه حينما يبدو في الأُفق.

2- أن غياب أدوات المصالحة حينها جعله يستمر في الطريق الأمني التقليدي في المواجهة الذي ذكرنا من قبل رأيه في عدم جدواه، وإذ نعلم بعد ذلك أن قبول الأمن لفكرة المصالحة مع الجماعة قد أدى إلى وقف العمليات الإرهابية، وتسليم السلاح ونزول المحتمين بالجبل وتسليم أنفسهم طواعية ضمن اتفاق مع الأمن بتخفيف وطأة تصنيف قضاياهم مع أحكام مخففة، فإننا نخلص للقناعة بأنه مجرد مواربة باب آخر للحلول السلمية يؤدي إلى تدفق الأزمات من خلاله إلى فضاء آخر ذي أجواء مختلفة، وأن أي تيار عاقل إصلاحي في مؤسسة أو جماعة تعج بالفساد -الفكري كان أو السياسي أو غيره- يحتاج إلى دعم مواجهيه من خارجه ‏(لا تستغرب التناقض، فذلك في حالة حسن النية والرغبة في الإصلاح لا التصادم)‏ عن طريق طروح جديدة مختلفة تفسد حجج الفسدة في المواجهة، وتعطل فرصة استغلال المواقف وتحويلها إلى مصالح ومنافع شخصية، أو على الأقل تُضعِف وجاهة الأفكار الانتقامية التصادمية وسطوتها، ثم الأهم أنه يعطي الفرصة للعقلاء بأن يعلو صوتهم وتقوى حججهم وآراؤهم في مواجهة الأبواق الغوغائية وتحصنها من تهم الضعف والخنوع أو الخيانة المُعَدة دوماً لإطلاقها في مواجهة كل مَن يفكر أن يخرج عليها بقول أو فكر مختلف، خاصة إذا كان تاريخ التيار المتعقل مليئاً بالكفاح والتضحية، فكما رأينا، فتاريخ اللواء رأفت عصمه تماماً من هجمات أعدائه في الجهاز، حينما أصر على إقناع قياداته بسلوك طريق المصالحة.

3- إنه على الرغم من قَدَرِه أن يكون السبب الأعظم لنجاح العملية باعتراف قيادات الجماعة نفسها، وأن مواجهته لرؤسائه وإقناعهم بضرورتها ووجاهتها لم تَقِل -إن لم تصعب كما ذكر الدكتور ناجح إبراهيم على لسانه أيضاً- عن مهمة إقناع قيادات الجماعة لأتباعم وتلاميذهم، فإنه لم يكن المبادر بها، ولعل ذلك لأحد أو كِلا سببين؛ أولهما أنه لا يمكن أن تدعو دولة المؤسسات -مهما كانت درجة الفساد فيها- إلى الرضوخ إلى جماعة ما أياً كانت، وأنه على الرغم من اتباع الدولة سياسة ردود الفعل المتواضعة على سبيل التهدئة في مقابل عمليات الجماعة في أول حكم الرئيس مبارك، فإنها قد أُثْبِت فشلها واعتقدت الجماعة أن ذلك خنوع وضعف من الدولة فزادت قناعاتها فيما تؤمن به من عنف وعملياتها الإرهابية.
الثاني هو أن نتائج لاقتراح/وساطة من الشيخ الشعراوي والعوا والغزالي قد أدت -بالرغم مما قيل من قبول مبارك بها لو نجحت- إلى الإطاحة بوزير الداخلية الأسبق عبد الحليم موسى في النهاية، وهو ما يبدو أنه كان سيحدث لكل مَن يسلك نفس السبيل.

ما ذُكر آنفاً من دفاع اللواء رأفت المستميت عن المصالحة والتشديد على مَن يحاول العبث ضدها، يؤكد بديهياً وجود أعداء ومعارضين لها، وإذ لا يجب أن يكون المعارض بالضرورة من أرباب المصالح الشخصية من وراء ذلك الصراع -على الرغم من واقعية وجودها حتماً- إذ تقوى أيضاً افتراضات الرغبة في الانتقام لرجال الشرطة الذين أُصيبوا أو ذهبوا ضحية تلك العمليات الإرهابية.

لكن المؤكد الآن أن مدرسة أحمد رأفت هي التي أنقذت الوطن من ويلات الاستمرار فيما رغبه معارضوه من مواجهات دموية وقمعية تعتمد في إحدى آلياتها على توسعة دوائر الاشتباه والتهديد والتعرض للأُسر بل الأمهات والزوجات أحياناً، وأنها قد حافظت على الكثير من أرواح زملائه وتلامذته، معارضين ومؤيدين، بل وبالطبع أرواح الكثير من المواطنين، ووأدت منبع إحدى المدارس الإرهابية في منطقة ووقت عصيبين.

وإذ أتخيل أحدهم بتلك النظرة الضيقة لسيادة اللواء -تماماً كالنظرة التقليدية الحالية لكل مَن يدعو إلى المصالحة- كخائن لأسرة وثأر اللواء خيرت وباقي شهداء الداخلية حينها، أُدرك الآن كم كان هذا الرجل عظيماً في تجاوزه تلك القرارات الصعبة والضغوط والعقبات خاصة المعنوية منها، وكيف كان الأمر شاقاً، وكيف أنه في الحقيقة كان حافظاً لشهداء مهنته مؤتمَناً عليهم وعلى أُسرهم، إذ قضى على ما كانوا يحاربونه بوسيلة أخرى لا غير، وهذا عندي هو أعظم ثأر لدمائهم، وهو ركيزة مبرراتنا دفاعاً عن دعوتنا للمصالحة؛ إذ كان ذلك هو ما ماتوا من أجله حقيقةً.

استُحْضِرَت كثيراً صورة نيلسون مانديلا أمامي وأنا أقرأ عن اللواء رأفت، مع أن وضعه كرجل دولة يقربه في الشبه من دوكلريك، الرئيس الأبيض الذي تصالح مع مانديلا والأفارقة، لكن كثيراً من التفاصيل تقربه عندي من مانديلا، كمثل تلك المجاهدة في إقناع المختلفين من حزبه من الشباب والقيادات على مسؤوليته ومصداقيته عندهم وأيضاً تحمله المسؤولية كاملة حين الفشل، في الوقت الذي اتجه فيه دوكليرك إلى الاستتار باستفتاء شعبي على تأييد المفاوضات مع السود من عدمه، مثل ذلك وغيره قاربه كثيراً عندي لمانديلا ويجعله يستحق أن يُذْكر باللواء أحمد رأفت مانديلا.

يتبقى أن أختتم بأمنية وتنويه: الأمنية هي أن تستعيد الدولة ووزارة الداخلية أو أحد المخلصين فيها التفكير في مدرسة اللواء أحمد مانديلا في سلوك سبيل المصالحة مع المعارضة ثم الإخوان، وبحججها ونتائجها في الدفاع عن هذه الرؤية، وأن يعلن مؤيدوها عن أنفسهم في مواجهة أرباب الانتقامات الثأرية الهوائية والمجرمة في كثير من الأحيان.

أما التنويه فهو الابتعاد تماماً عن مقارنة أزمة الإخوان المسلمين بأزمة الجماعة الإسلامية؛ إذ إن المفارقات بعيدة إلى حد كبير، فالسير بنفس الطريقة لا يعني السير في نفس الطريق وحدوث أو تكرار نفس السيناريو، وإذ يبدو ذلك ملتبساً في طرحه -على الرغم من بداهته عندي- فإنه يُلزِمُنا أن نوضحه في المقال التالي إن شاء الله تعالى.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد