لطالما خلّفت الصراعات آثارها المدمرة على الشعوب، وأدّت إلى تغيير حياتهم، وزادت في معاناتهم وبؤسهم، وحملت في صدورهم وذاكرتهم قصصاً وحكايات وآلام في كل محطة من محطات نزوحهم ولجوئهم؛ لتصبح صور المعاناة جزءاً من عيشهم كالطعام والشراب والهواء.
وهل يا ترى لا يطال الدمار إلا الممتلكات والعمران؟ وينجو من كُتب له النجاة في بدنه؟
لا شك أن الجراح الناتجة عن الأحداث ستكون أشد وطأةً وفتكاً على الإنسان من أي سلاح؛ لأنك لن تستطيع حصر النتائج في فرد أو أسرة واحدة أو بقعة جغرافية واحدة، فالآثار السلبية تطال الفرد والأسرة صغيراً كان أو كبيراً، داخل المخيمات أو خارجها، نازحاً داخل البلد أو مهاجراً.
وقد بانت نتائج ذلك وباتت حقيقة واضحة، فيها من الخطورة ما يكفي على كل الأصعدة، وخصوصاً النفسية والوجدانية للاجئين نتيجة تكرار مآسيهم التي ولّدت اضطرابات عدة من قلق وضجر وحزن وخوف من المستقبل.
قد تستطيع إعمار ما دمرته الحرب بفترة وجيزة، لكن كيف ستبني إنساناً دُمرت نفسيته وأصبح يشعر أنه وحيد وغريب بين أهله وناسه؟
إن الوقوف أمام ما يتعرض له اللاجئ الفلسطيني من استهدافٍ لقيمته وبنحوٍ متسارع لا يمكن الصمت عنه، خصوصاً أن المآسي اليومية التي يتعرض لها لم تعد خافية على أحد، ويشاهدها القاصي والداني.
لم يكن اختلال القيمة الاجتماعية بعد مضي أكثر من 5 سنوات من الأحداث أمراً طبيعياً؛ بل هناك تجاهل وصمت غريب لملف فلسطينيي سوريا من قِبل المرجعية الوطنية الفلسطينية وصُنّاع القرار، هذا ما أدى إلى فقدان الثقة بالقيادة الفلسطينية.
يعلم الجميع أن السلطة الفلسطينية ومعها كل القوى والفصائل يملكون من القدرات والإمكانيات ما يؤهلهم لتجاوز المِحن والصعوبات لو اجتمعت على تغليب المصلحة العامة والعليا للشعب الفلسطيني، لكن عندما وجد اللاجئ الفلسطيني قيادته منسلخة عنه ولا تعبر عن مصالحه ذهب إلى سلوك كل السبل، ومنها الهجرة إلى أي مكان بحثاً عن الأمان؛ لأن من يمثله فشل في ضمان الحد الأدنى من أمنه وسلامته، وتركه يعيش ظروفاً عصيبة وأزمات نفسية ومشكلات اجتماعية متعددة الأوجه، منها ما أدى إلى الانفصال والطلاق وتشتت الأبناء والعزلة، وصعوبة العودة إلى ممارسة الحياة الطبيعية والتكيف مع الظروف الجديدة، والتعلق بآمال مفقودة، كل ذلك وغيره ترك آثاره المؤلمة في نفوس العامة صغاراً وكباراً، وذلك بعكس الآثار الاقتصادية التي يمكن تداركها ببضع سنوات.
لهذا فالشعوب لا تنتهي بالدمار الذي تسببه الصراعات، وإنما تنهار عندما تفقد مجتمعاتها أركان وعناصر ضبطها الاجتماعي والوطني، الذي هو بمثابة منظومة متكاملة الأركان، تتوارثها الأجيال جيلاً بعد جيل، والمبنية على أسس وأهداف واحدة وماضٍ وحاضر واحد.
يتجاهل البعض خطورة أن يتحول اللاجئون الفلسطينيون إلى مجتمع ضعيف وهش تنحل فيه البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتصل الظروف بهم إلى تدمير ما تبقى من إمكانات عندهم، وتصل بالتالي إلى تمزيق هويتهم الوطنية التي هي بداية الانهيار والضياع.
هذه الحقيقة المرّة التي لا بدّ من الإشارة إليها وإمكانية الشعور بها ومشاهدتها والاطلاع عليها من الأخبار والتقارير اليومية التي تصدر متناولة الوضع العام للاجئين الفلسطينيين في مخيمات سوريا وخارجها وفي أماكن وجودهم وشتاتهم.
فهل تعي القيادة الفلسطينية هذه الأمور وتتصالح مع نفسها وشعبها؟
ومتى ستباشر العمل الجاد على إنقاذ ما يمكن إنقاذه؟ وتسعى إلى ترميم العلاقة مع شعبها، ومن ثم تعيد الثقة المفقودة بينها وبين المجتمع الفلسطيني.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.