في زمن الثورة الصناعية الرابعة، لا يكاد يمر يوم دون أن تطل علينا الهيئات والمنظمات ومختلف الجهات بالإحصاءات والدراسات، جهود مَسحية متنوعة وأرقام تشابهت علينا، كما تشابه البقر على قوم موسى عليه السلام، أرقام شكلت تراكماً بيانياً مبهراً، مؤشرات كثيرة وتطبيقات إلكترونية في عالمنا اليوم، جعلت منه منصة رقمية بامتياز، وحولتنا إلى بضاعة مُزجاة، كل شيء فينا قابل للقياس، بما فيها كتل أجسامنا، ومشاعرنا وأحاسيسنا، وإذا كنا نحن العرب اليوم في عالم الأعمال أبعد ما نكون عن مؤشرات ومقاييس الأداء الأساسية، فإن مؤشرات كثيرة لم تخطئنا أعينُها، وهي تصنف وترصد وتغربل، ولعل مؤشر السعادة أحد المؤشرات التي تناولتنا بإسهاب، وصنفتنا كعادة كل التقارير الدولية في آخر ترتيب الأمم والشعوب، ولا أعتقد أنهم بذلوا مجهوداً كبيراً لمعرفة ترتيبنا، فأخبارنا تتصدر المواقع ووكالات الأنباء، والألم ممتد والجرح غائر، فاليمن السعيد لم يعد سعيداً، والهلال الخصيب لم يعد خصيباً، ولم يبق لنا من السعادة نصيب إلا ما تسمى به بعضنا، ذكراناً وإناثاً كاسمي سعيد وسعيدة، على أمل أن تؤثر الأسماء في أصحابها ذات يوم، وترتقي بنا في مؤشر السعادة العالمي.
لقد كانت السعادة منذ فجر العلوم هدفاً للشعوب والأمم التي تنشد الرغد والرفاهية، فانبرى إلى فهم جذورها خاصة الاجتماعية كثير من العلماء والفلاسفة، يتقدمهم أرسطو الذي كان يرى "أنَّ السعادة ترتبط بتحقيق الخير؛ حيثُ تتحدد باللذة، وهي الفضيلة التي تقود الفرد إلى السعادة بقوى إراديّة من خلال اتباع الاختيار الذي يدفعه إلى التأمل"، ويضيف أرسطو بالتأكيد أن "السعادة الحقيقية تتحول إلى العشق الميتافيزيقي وإلى السعادة الفكريّة والروحيّة، وهي مسألة جماعيّة وليست فرديّة، ولكل شيء غاية، وغاية السياسة هي السعادة"، ولا يُلام أرسطو على اعتبار غاية السياسة هي السعادة، ما دام لم يكن شاهداً على الانتخابات بالوطن العربي والأجواء الشفافة والنزيهة التي تصاحبها؛ بل والسعادة التي تغمر المواطن العربي وهو يشارك في مختلف الأعراس الديمقراطية، بشعار ".. كلكم راع وكلكم مسؤول عن التفريط في حق الرعية".
فيما يعتقد الفارابي أنّ السعادة "ليست في السعادة الشخصيّة، وإنما في السعادة الجماعيّة، فهو يبحث في الأشياء التي تحقق السعادة لأهل المدن كجماعة"، وأكاد أجزم ألا أحداً منا فهِم هذه المقولة، كما فهمها محافظ مدينة كيوتا بجمهورية التشيلي لويس البيرتو ميا غالاردو، الذي حاضر بالحوار العالمي للسعادة يوم الحادي عشر فبراير/شباط المنصرم، على هامش القمة العالمية للحكومات بدبي، عن دور المدن في تحقيق السعادة.
إن السعادة في العالم الغربي مطلب ومطمح، فالحكومات منكبة ليلاً ونهاراً لإسعاد مواطنيها؛ لأن إسعادهم جزء لا يتجزأ من مسؤوليتهم الأخلاقية والوطنية والتاريخية، في حين يفتش المواطن العربي عن شبه سعادة في رشفة قهوة أو كوب شاي، يأتي على ما بقي من أعصابه المتلفة بوجع الحياة وهمومها، فكمية الأسى عندنا لو صُدِرت لنافست البترول الذي نصدره، ولو طورنا الصناعة في قطاعات أخرى، كما تطورت صناعة التعاسة في بلداننا، لاحتاجت القوى الكبرى في العالم سنوات ضوئية للحاق بركبنا، لكن هيهات الأماني تغير الواقع المعاش.
لقد اهتمت كثير من الدول بالصحة النفسية لشعوبها، وترجم هذا الاهتمام بإجراءات إدارية ميسرة، جمَّعت الخدمات اليومية التي يحتاجها المواطن في تطبيق إلكتروني، يُمَكِّن كل شخص من تخليص معاملات كانت بالأمس معقدة، دون أن يتحرك من مكانه، وللتاريخ نسجل أن دول الخليج العربي قطعت شوطاً متميزاً في هذا التوجه، ولها تجارب رائدة تستحق الإشادة والتنويه.
وحتى نخرج من عباءة التوصيف والسرد لواقع ندركه وندرك مرارته أكثر من غيرنا، أدَّعي أنه من الجمالية بمكان النظر في مرآة التاريخ، والتأمل في حياة الأولين، حياة كان فيها من البساطة ما فيها، زمن جميل يتقاسم فيه الناس كل شيء، فالسعادة ليست مرتبطة كلياً بالرفاهية، والشاهد تجربة مملكة بوتان، هذه المملكة الصغيرة الواقعة بين الهند والصين في الطرف الشرقي من جبال الهيمالايا، التي صدرت للعالم فلسفتها في السعادة، وسمعنا من خلالها لأول مرة عن "السعادة المحلية الإجمالية"، التي قال عنها ملك بوتان الرابع إنها "أهم من الناتج القومي الإجمالي"، والحقيقة أن المتأمل لتعاريف السعادة، بإسقاطها على الواقع العربي، يدرك تماماً أن المال ليس الطريق الوحيد لاستجلابها، وإن كان مساهماً أساسياً ربما في وجودها، فإحساس المواطن العربي بعدم الرضا عن مستوى الخدمات المقدمة له، خاصة ما تعلق بالتعليم والصحة، سبب رئيسي في تعاسته، وليس الأمر متعلقاً فقط بالمُدخلات، بل حتى بالمُخرجات، وهذا ما عبرت عنه أيضاً السيدة هيلين كلارك، مديرة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، في افتتاح الحوار العالمي للسعادة، بالتشديد على "أهمية تضمين الرفاه الذاتي للفرد، وتصميم برامج تعليمية جديدة، تلهم التلاميذ لا للحصول على الوظيفة المنشودة، بل على الحياة المنشودة".
ليست الصحة والتعليم وحدهما من تسببتا في إصابة عالمنا العربي بأنيميا السعادة، فتراجع الرضا الوظيفي، والتضييق على الحريات الشخصية، وغياب العدالة وارتفاع مؤشرات الفساد، أسهمت بحدة في عدم إحساس الفرد العربي بالسعادة، فإذا كان الفساد يتناسب عكسياً مع الإحساس بالرضا والمساواة، فإن مؤشر الفساد أيضاً يتناسب عكسياً مع مؤشر السعادة؛ حيث نحتل الريادة في الفساد والدراسات المتعلقة به، والمؤخرة في الإحساس بالسعادة، سعادة ضاعت بين أوطان مغتصبة وأخرى تموج مضطربة، وبقية باقية تعيش على هامش التاريخ والحياة.
كانت الأمة العربية، ولا تزال، أمة رسالة، وما لم يهيمن البُعد الرسالي في تفكير الفرد العربي، ستبقى السعادة جاثمة فقط في أسماء سعيد وسعيدة، والتغيير نحو الأحسن يمر لا محالة بتغيير الأفكار، كما أورد المفكر الجزائري الفذ مالك بن نبي -رحمه الله- في كتابه "ميلاد مجتمع": "التغيير يبدأ من تغيير الأفكار، وهو وحده لا يكفي لإحداث تغيير في الواقع، فمهما تغيرت الأفكار في العقول أو كانت المكتبات غنية بها، لن يحدث تغيير ما لم توجد شبكة علاقات اجتماعية قوية تُفعِّل هذه الأفكار وتُنَزِّلها للواقع"، واقع نرجوه أسعد وأفضل وأرقى، لعل الجروح تندمل والمجد يعود.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.