منذ عامين، بث التلفزيون الكوري الشمالي خبراً عن تأهل منتخب بلاده لكرة القدم للمنافسة في تصفيات كأس العالم، ومن أجل إتقان الحبكة الدرامية، راح التلفزيون يؤكد أن المنتخب سينافس البرتغال في مباراة مهمة، جاء ذلك رغم أن كوريا "الديمقراطية" -وليس لها من اسمها أدنى نصيب- لم تتأهل أساساً للمونديال.
نفس هذا الإعلام "الفتاك" الذي تنطلي خدعه على بسطاء العقول من الناس للأسف، موجود أيضاً في مصر ومدعوم بذات القوة العسكرية المميتة، إعلام له صولات كثيرة جداً، يبدأ أهمها من الستمائة متسلل من حماس الذين قطعوا آلاف الأميال من الفيافي والقفار، واقتحموا عشرات السجون وآلاف أقسام الشرطة في مصر، مروراً بالرجل المنقذ الموحى إليه، وجهاز الكفتة الذي يعالج أي مرض، انتهاء بأسر قائد الأسطول السادس الأميركي، وإسرائيل التي ترتعد خوفاً من صواريخ السيسي، والحبل على الجرار.
ورغم فاشية النظامين، فإن هناك فروقاً جوهرية بينهما، فالأول يناصب الولايات المتحدة وحلفاءها العداء، وينجح في أن يبتزها مادياً وعسكرياً بما لديه من أسلحة ردع نووي دون أن يقدم لها "مخازي"، وغير مضطر أن يغازلها خفية أو علناً، لكن الثاني ما تمكن من البقاء شهراً واحداً لولا دعم أميركا والقوى الغربية له، ولو قطعت إمدادات شرايين الدم عبر الخليج عنه شهراً واحداً فسيموت غير مأسوف عليه، كما أن الأول يعلنها صراحة أنه نظام عسكري غير تعددي يعيش هدنة طويلة من حالة حرب مدمرة مع أميركا واليابان، في حين أن الثاني يعيش حالة حرب حقيقية مع شعبه.
والحقيقة أنني سمعت، بل وكنت شاهداً أحياناً على مآسٍ خلفتها القبضة الفاشية لسلطة "الانقلاب" -وإن كان الأوقع سلطة "الثورة المضادة"، بما لها من شمولية- في السجون، يشيب لها الرأس فزعاً من فرط بشاعتها، محققة الكابوس الذي هو أقرب للحقيقة منها للمجاز، فهذه الروايات حولت سجون مصر إلى "أبي غريب"، ذلك السجن الذي مارست فيه قوات الغزو الأميركي للعراق كل الفظائع، وحولته إلى مرتع ترتكب فيه أحط الجرائم النفسية والجسدية وأكثرها إيلاماً بحق المعتقلين، لدرجة تجعل الموت حلماً بعيد المنال لديهم.
حكايات كثيرة وقفت على تفاصيلها بحكم عملي الصحفي والحقوقي، حكايات كانت مروعة، لكنها في الوقت ذاته كانت متوقعة، فها أنا ذا أشاهد "قمر الزمان"، الطالب الفلبيني المبتعث للأزهر الشريف الذي شاء حظه العاثر أن يمر بجوار مظاهرة طلابية هناك، وما أن عبر بضع خطوات حتى تلقفه مرشدو الأمن ليعتقلوه ويجعلوه بعد ذلك مادة إعلامية للتضليل، والتدليل على أن المتظاهرين ليسوا مصريين، ولكنهم إرهابيون أو ممولون قدموا من كافة دول العالم، أو حتى هبطوا من السماء، وقضى صاحبنا عقوبة بالسجن قدرها عام كامل، تاركاً زوجته وابنه البالغ من العمر عامين، دون أنيس أو ونيس وعائل في هذه الغربة الموحشة.
وكذلك تلك السيدة التي اعتقلوا زوجها وتركوها دون عائل تنتظر إحسانات المحسنين للصرف على أطفالها التوائم الثلاثة ولسداد إيجار الشقة، وهذا الرجل الذي قام المرشدون البلطجية باغتصاب شقته السكنية حتى لا يتم تلفيق تهم إرهابية له؛ ليعتقل على أثرها ردحاً طويلاً من الزمن.
ولا هذه الأسرة التي اعتقلت الشرطة الأم والأب المهندس الزراعي والابن طالب الثانوية العامة، ولم يتبقَّ من الأسرة غير الابنة، والمدهش أنهم قاموا بتعذيب الابن بالصواعق الكهربائية في عرض الشارع، وأمام الجميع أثناء عملية اعتقاله.
حتى نقيب المعلمين بالقاهرة الجديدة اعتقلوه من منزله، وكان كبار ضباط قسم "…" مدينة نصر "يفاصلون" زوجته في أن تدفع لهم يومياً "300 جنيه" حتى استقر الحال على أن تدفع فقط 100 جنيه، هذا بخلاف ما يطلبه البلطجية الذين يؤجرون أماكن الاحتجاز بالسنتيمتر في أقسام الشرطة وبأسعار تنافس أفخم الفنادق العالمية، ومن يمتنع عن الدفع فقد يكون مصيره إما القتل أو العاهات المستديمة أو الاغتصاب.
واستمر الحال كذلك لعدة شهور إلى أن تم ترحيله للسجن بعد تدخل "واسطة كبيرة"، لكنهم هناك منعوا عنه الدواء، رغم أنه مريض بفيروس الكبد الوبائي، والرجل الآن شارف على الهلاك، ولا هذا الطالب في زراعة مشتهر الذي أقسم أستاذه على الملأ بأنه لن يسمح له بالنجاح أبداً في مادته، وذلك لأن الطالب سأله عن السبب الذي جعله يخرج عن المحاضرة ويسب "مرسي" بأقذع الألفاظ، بل إن المدرس قام بإبلاغ الأمن عن الطالب فتم اعتقاله، ويحكي الطالب أن الشرطة جردته وآخرين من ملابسهم تماماً وأدخلوا إليهم فتيات معتقلات تم تجريدهن أيضاً من ملابسهن لنحو الساعة كان الجميع ينظر إلى الأرض.
الحكايات موجعة حقاً، إلا أن ما سمعته أخيراً من ضحايا ثقات يعد من أبشع جرائم السجانين المصريين على الإطلاق، لدرجة تجعلنا لا نصدقها، وليس ذلك لاستحالتها، ولكن من أجل إعفاء ضمائرنا، حيث حول حياتهم إلى جحيم مطلق يهون بجواره جحيم "دانتي"، ومآسي "راسين"، وذلك أن سجان "جحيم دانتي" كان هو الله العادل الحق، أما سجان تلك الرواية فهو بشر، يعرف الحقيقة، ويسعى لطمسها للأبد، هو آلة صماء بلا قلب ولا دين، تنفذ ما تمليه عليها إرادة آمريها.
الحكاية كما سمعتها، وإن كنت غير مسؤول عن صحتها من عدمه، أن الشرطة اعتقلت هذا الشخص من مظاهرة كانت تسير في شارع السودان بالمهندسين، بعدما قتلوا قرابة ثلاثة متظاهرين آخرين، وأصابوا العشرات بطلقات الرصاص الحي والخرطوش، ثم بعد ستة أشهر أفرج عنه؛ ليعود إلى بيته ولكنه عاد جسداً بلا روح، لاحظت زوجته أنه كما لو كان قد بدل بآخر داخل السجن، فعاد بخصال ليست فيه، فهو يدخن السجائر بشراهة، مع أنه ما كان بمدخن، كثير الحديث هنا وهناك عبر الهاتف بصوت خفيض وما كان أصلاً من هواة الثرثرة، المهم ارتابت زوجته في أنه قد يعرف أخرى عليها، فقامت بتغيير إعدادات هاتفه ليسجل له جميع المكالمات، وهنا وجدت أن شخصاً ما يقوم بسبه بأحقر الألفاظ،
طالباً منه أن يرشده إلى أسماء الذين يخرجون في المظاهرات وعناوينهم، ويذكره بفيديو "الاغتصاب"، الزوجة سقط في يدها، وراحت تطلب من زوجها تفسيراً لما سمعته، فراح يخبرها أنهم أجبروه على اغتصاب معتقلة كانت تسير في ذات المظاهرة، وذلك بعد تعذيب شديد بالصواعق، وأنهم حقنوه بحقنة هيروين، وأنهم طلبوا منه العمل كمرشد لهم في المنطقة، وإلا فسيعاد اعتقاله، وسيحرم من جرعة المخدر التي يعطونها له كحافز، الزوجة المكلومة التي دمرت أسرتها وسقط عمود سنامها تحتفظ بالتسجيل، ولن تخرجه حتى تتحقق العدالة، وتضمن له الحماية.
وفي الحقيقة، مآسي "الثورة المضادة" في مصر لا تنتهي أبداً، حتى بعد انكسارها، ستظل جراحها غائرة في أعماق المصريين لأزمنة بعيدة قادمة، ويحضرني ما قاله أحد المعتقلين المفرج عنهم بأن من يموت فقد نجا، والعذاب الحقيقي هو أن تظل حياً.
السجون الآن لا تكتظ بالمجرمين والآثمين، ولكنها تكتظ حتى الحلقوم بأساتذة الجامعات والمهندسين والصحفيين والمحامين والأطباء، تكتظ بنخبة هذا الوطن وحصاده الطيب، تكتظ بخيرته في كل شيء، تكتظ بخيار التنشئة الاجتماعية والأخلاقية والفكرية والثقافية، بينما يتم في خارج الجدران التي زج بهؤلاء المحترمين فيها لينام كل عشرين منهم في غرفة عبارة عن مترين في مترين، تم منح صك العدالة القضائية للمجرمين والبلطجية من حملة الإعدادية.
صدقوني أنتم لستم مساجين ولا حتى معتقلون، أنتم رهائن، رهائن بيد نظام عفن يأبى أن يرحل، ويريد تثبيت التاريخ على مشهده الهمجي بأي شكل أو ثمن، لكنه أبداً لن يبقى ثابتاً، فأنتم السعداء في النهاية وأنتم المنتصرون، أما هو فيغوص في التعاسة ويمضي لنهايته؛ لأن وسائله وإجراءاته لا تناسب روح العصر، وسينبذه العصر.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.