في حديثه عن الفض، ذكر أحد شباب الإخوان المسلمين ما يلي:
"هل اعتصام رابعة كان مسلحاً؟ الإجابة ممكن تكون صادمة للكثيرين، أيوة كان مسلح، اللي افتكر إنه كان مسلح بالإيمان أو عزيمة الشباب، لأ اللي بتكلم عليه الأسلحة النارية: كلاشينكوف وطبنجات وخرطوش وقنابل يدوية ومولوتوف ويمكن أكتر من كده، كان فيه سلاح في رابعة كافي إنه يصد الداخلية، قبل يوم المجزرة بيومين كان 90% من السلاح ده خارج رابعة، خرج بخيانة من أحد المسؤولين من إخوانا اللي فوق، بس دي قصة تانية هحكيها في يوم تاني".
حقيقةً لم يكن في ذلك الحديث جديد بالنسبة لي، لكن ما جدَّ عندي هو أن المدرسة التي آمنت بقبول رد عنف الدولة بعنف مماثل على غير ما يعلنه قيادات الإخوان المسلمين دوماً قد أعلنت عن نفسها صراحة في مواجهة بعض "إخوانهم اللي فوق"، بل واتهامهم بالخيانة بالسير في سبيل غيره، أو على الأقل بالفشل أو الجبن؛ إذ لم يجرأوا على ما تجرّأوا هم عليه.
أمر كهذا هو حدث خطير لا يمكن غض النظر عنه، نعلم أن العنف والقوة المفرطة من الدولة لا تولد إلا عنفاً مماثلاً، وأن كل تلك النتائج كانت يقيناً لا توقعاً، ولكن أيضاً نتمنى أن تدرك قيادات الإخوان المسلمين أنها قد أخطأت في اختيار صفحة التاريخ التي أرادت استنساخها، فنسخوا صفحتيهم مع الملك وجمال عبد الناصر! وإذ يبدو أنهم على بوادر الاقتناع بحلول وسيطة، يظهر الداعون إلى عكس ذلك بقوة أيضاً؛ مما يضع باقي الجماعة بين فكَّي أسد.
متى تقرر جماعة الإخوان أن تكوي جُرحها النازف؟ على قيادات الإخوان الآن أن ينقذوا أبناءهم من وحش التطرف الذي يوشك أن يبتلعهم، خصوصاً بعد أن راح ضحيته عدد لا يستهان به، وما الرسالة المذكورة مقدماً إلا بعض مما تعرفه القيادات كاملاً، وما زلنا لا ندري عنه شيئاً.
هؤلاء الذين ظنوا المواجهة المسلحة حلاً مطروحاً فرأوا ما حدث لحلب، وتلك المواءمات السياسية التي تقوم بها دول رأوا فيها حلم الوطن الذي لم يتحقق في دولتهم، فصار الواقع يعتصرهم بين الحسرة على فرصة أضعتموها عليهم للحياة في وطن ظهرت عليه بوادر من الأمل فتعلقوا به، وبين غربة لا يأمنون حاضرها، فضلاً عن نهايتها، وإن أمِنو.. فلا أعتقد أنهم يهنأون.
لا أتوقع ولا أدعو جماعة الإخوان أن تدعو هي إلى المصالحة مع الدولة، ولكن من العقل والحكمة قبول الوساطات والمقترحات المطروحة التي ستكون -ولا شك- بمثابة قبلة الحياة لجيل كامل؛ ليعود إلى حضن وطن اغترب عنه حتى من يقيم فيه.
ليس الأمر هيناً، فكما ذكرت أنه ككيّ الجرح وهو أكثر إيلاماً منه، وإذ أعلم أن أكثر شباب الإخوان لن يقبل به، إن لم يعادِه، فإني على يقين بأن نظرة باكية ضاحكة من أم تلقف في حضنها فلذتها بعد فراق أو فرحة أبيه الهَرِم وهو يحتويه بذراعين متحسراً أن لم يستطِع حمايته بهما، وسعادة طفل بعودة أبيه لا يعلم فيمَ غاب وعاد، وزوجة برجوع رجل البيت لا يزال يحتاج اطمئنانها به إلى فترة نقاهة، كل ذلك كفيل أن يَجْبُرَهُم شيئاً ما، فمهما كانت ثورتهم، فهم ليسوا قساة على كل حال، ثم للأيام شأن آخر مع جبر الخواطر.
وإذ يسير بنا السياق حتماً إلى قلب الأزمة، الذين قضوا وتركوا من لن نرى في أعينهم تلك الفرحة، فأكون كاذباً مهما ادعيت أني أستشعر أساهم وآلامهم وأنا لم يصبني شيء منها، لكنني بكل أسف لا أرى إلا أن حالهم يزيد سوءاً، وجروحهم تزيد عمقاً، ولا يجدون الوقت الكافي ليجبروها، فضلاً أن يتاح عدل يُعيد لهم بعض حقوقهم، وفوق كل ذلك يزيد أمثالهم عدداً، وتزداد المصائب تباعاً، فتجد من يُقتل ابنها ثم يُعتقل الآخر، ومن يقتل زوجها وأبوها، ولا نرى في طريقهم – الذي اخترتموه لهم بكل أسف – إلا مزيداً مستمراً من الآلام والأوجاع، في الوقت الذي تعجزون فيه عن إدراك شيء لهم، مطالبين بأمر لو عاد لم يُعد لهم ما فقدوا، وبثأر يُقضى فيه المزيد، ولا يبقى للأرض سقيا إلا الدماء حينها، كأنكم تزيدون على الجرح لتخرج الطعنة من الجهة الأخرى.
وإذ يدعي الجميع أن الثأر الأعظم لمن قضى في سبيل هذه البلاد هو صلاح حالها، وعودة الأمن والأمل لجيل فقده، فإن ما ندعو إليه من مصالحة في يقيننا هو ذلك الأصلح الذي سينقذها من مغبة كوارث لا حصر لها، بعد أن استنفد طاقتكم وطاقة أبنائكم المقاومة المتهورة مع الدولة المتهورة بجميع مؤسساتها قاطبة.
فالسير في سبيلٍ غير ما ساروا إليه ليس خيانة لهم؛ إذ يصل بنا إلى بر آمن لأبنائهم، بل هو في الحقيقة من البر بهم، وحفاظاً على من خلَف من الانغماس في وحل العنف المضاد ودوائر الكراهية التي لن تنتهي أبداً بمبدأ الثأر.
وإذ ذكرت آنفاً أن هؤلاء الضحايا هم قلب الأزمة، فقد عنيت أنهم قلب الأزمة الإنسانية لا السياسية؛ إذ تلك قلبها وبكل أسف.. كرسي الرئاسة.
كان يجب في بادئ الأمر قبول الحلول الوسط والتنازل عن ذلك الكرسي – ويا ليتكم استجبتم – على أقل تقدير لتفويت الفرصة على محترفي التعامل مع الشماعات المعلقة، فإن لمثل هذه الأحوال خبراء في استحلال الدم للمنفعة الخاصة، جعلتم أنفسكم أعظم هدية أُهدِيَت إليهم؛ لينتصروا على أصوات العقل المُنصفة فيهم، التي تذكرونها أنتم مراراً بالشرفاء الذين لا يقبلون ما يحدث في الوقت الذي تُغلقون عليهم كل سبيل لوقف هذا النزيف إلا مستحيلاً تتمنونه بأن يضعوا رقابهم تحت المقصلة، ويواجهوا من لا طاقة لهم بهم، وحتى لو فعلوا، فالحقيقة أن الوطن لا طاقة له بمثل تلك المواجهات.
في أزمة الدولة مع الجماعة الإسلامية (المسماة أمنياً بالتكفير والهجرة)، حاول الشيخ الشعراوي -رحمه الله- أن يتوسط للحل بين الجماعة والدولة، وافق الرئيس مبارك على وساطته، إن استطاع أن يراجعهم، لكن الجماعة هي التي رفضت، ثم لم يلبث أن مرَّت بضع سنين حتى قام بنفس المبادرة قيادات الجماعة نفسها، وببنود تجاوزت كثيراً فيما أعتقد ما طرحه الشيخ الشعراوي، ما يدل على أن تأثير قيادات الجماعة لا يقارن بمن خارجها، مهما كان مقامه وقدره في المجتمع، بل ومهما كان الخلاف بين صاحب الطرح وبين الشباب المتحمس من جماعته؛ لأن ملاقاة نفس الصعاب تخلق نوعاً ما من المصداقية الخاصة بين من عانوها لا تتوافر لمن خارج دائرتهم، تماماً كما واجه نيلسون مانديلا شباب حزبه المتهور الرافض لمبدأ المصالحة، لكن نضاله وتاريخه ثبتا أمام شبهات التنازل عن قضيتهم.
إذاً فلا شك أنه مع وجوب وجود ضغوط وسيطة للمصالحة، فإن دور القيادة هو الفيصل في الأمر، مما يجعلنا نناشدهم بها، وأن يأخذوا في الاعتبار أيضاً أن الشعب المصري كله والوطن قد تضرر من أحداث ذلك الصراع السياسي المقيت، وأن قبولهم لطروح المصالحة يجعلهم منقذين لجيل كامل من أبناء الوطن لا من جماعتهم فقط، وإذ لا يعني ذلك الحديث تجاهل السبب الأكبر لما نحن فيه، وهو تزييف الحقائق والمكابرة والبطش والظلم، لكن مجموع أخطاء قيادات الجماعة مضافة إليها متابعة قواعدها لها وطاعتها في تلك الأخطاء، وشكل المقاومة التي اختاروها بعد تنحيتهم، ونوع الخطاب الذي تناولوه لا يعفيهم من تحمل مسؤولية كبيرة عن الوصول إلى ما نحن فيه.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.