أثناء طفولتنا جميعاً تكرر على مسامعنا هذا السؤال: "ماذا تريد أن تصير عندما تكبر؟"، كل منا كانت له أحلامه وطموحاته، منا من أراد أن يكون طبيباً، مهندساً، معلماً، رائد فضاء.. تختلف الإجابات من واحد لآخر، كل يحلم بذلك اليوم الذي سيحقق فيه حلمه، الكثيرون منا كان شغفهم منذ الصغر أن يصيروا مهندسين، لطالما حلموا بذلك في طفولتهم فأخذوا ذلك الحلم على محمل جد كي يتحقق.
منذ أن كنت في الأقسام الابتدائية وأنا دائماً أتخيل ذلك اليوم الذي سأصير فيه مهندسة مسؤولة عن مشاريع كبرى، كنت دائماً أرسم لنفسي تلك الصورة لمهندسة تضع على رأسها تلك القبعة البيضاء أثناء الأشغال، وتنتقل من مكان لآخر حتى تقوم بدورها كما يجب.
شاء القدر أن أكبر وأدخل كلية الهندسة، فرحت جداً كوني وضعت اللبنة الأولى لتحقيق حلم طفولتي "أن أصير مهندسة".
درست هناك خمس سنوات، خمس سنوات من الجد، من التعب، من سهر الليالي أمام الكتب، خمس سنوات كانت كفيلة بأن تجعل مني شخصاً آخر، غير ذلك الذي اعتاد رؤيته أفراد أسرتي، لأنتقل من تلك الفتاة المدللة إلى فتاة تتحمل من العناء النفسي والجسدي ما يصعب تحمله، خمس سنوات كانت كفيلة بأن تترك تحت عيني هالات سوداء إلى الأبد.
فعندما تقرر أن تصبح مهندساً يجب أن تتحمل وتواجه كل الصعوبات، سيتطلب منك الأمر أحياناً أن تتناول وجبة واحدة أثناء اليوم بكامله، يتطلب منك الأمر ألا تنام يومين متتاليين حتى تكمل عملاً تحضره قبل أجل محدد، سيتطلب منك الأمر كذلك أن تهمل نفسك فتصبح لا تهتم بمظهرك الخارجي بتاتاً، فيستغرب منك العديد من معارفك، منهم من يتهكم ومنهم مَن يتفهم أمرك فيدعو لك.
أحياناً قد تتعب نفسيتك وجسدك معاً فتملأ الأفكار السوداوية رأسك، تصبح على حافة التخلي عن ذلك الحلم.
كثيراً ما راودتني فكرة تغيير الكلية والالتحاق بشعبة أخرى غير الهندسة، لكن ريثما تفكر قليلاً تجد أن تحقيق حلمك يستحق منك كل هذا العناء والكثير من الصبر، تفكر في أسرتك التي ضحت بالكثير حتى تدرس أنت وتصبح مهندس دولة، تفكر في أمك التي تستيقظ فجراً لتدعو لك، تفكر كذلك في افتخار والدك بك حتى وهو تحت الثرى، كل ذلك كان موطن قوة يجعلني أتمسك بحلمي يوماً تلو الآخر.
خلال هذه الخمس سنوات أدركت أن الأشياء التي نحبها تستحق منا أن نتعب لأجلها، فكما يقال "لا تنال المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلاباً".
ستتعب كثيراً لكن أثناء وصولك للمبتغى ستنسى كل ذلك العناء، حقيقة فإن دراسة الهندسة تعلمك الكثير بعيداً عما هو عملي، تعلمك الصبر، الاعتماد على النفس، الإيمان بقدراتك التي يستخف بها الآخرون، فالهندسة علم يجعل منك إنساناً يقبل بأي نوع من التحدي مقابل الوصول إلى نتيجة ما، فيصنع منك ذلك إنساناً مغامراً.
غير أنه في وطني، أن تصبح مهندساً يجعلك محاصراً بسنوات من البطالة، أن تصبح مهندساً في وطني أمر غير كافٍ لتلتحق بسوق الشغل، بل يجب عليك أن تنال وساطة جانب شهادتك العليا، الكثير من المتخرجين والقليل من المناصب، حتى تلك التي يعلن عليها تلزمك وساطة من أجلها، فالشفافية والكفاءة صارتا معيارين نادرين جداً، لا يهم إن كنت كفؤاً أم لا، الأهم أن تعرف أحداً يتحدث عنك أمام مديره، أو أن تنحدر من عائلة مشهورة داخل مجتمعك.
أصبح من المؤسف جداً أن ترى أفواجاً من المتخرجين يغرقون في بحر البطالة إلى أجل غير مسمى، من المحزن أن تجد مهندساً قضى خمس سنوات من عمره بين الكتب والامتحانات يذبل يوماً تلو الآخر جراء شبح البطالة، منهم من اقتضت عليه ظروفه المادية أن يشغر أي وظيفة كانت هارباً من ذلك الشبح الذي يلاحقه، ومنهم من اختار الهجرة تاركاً وراءه وطناً لطالما أحب أن يخدمه، لكن الوطن أدار ظهره، يحز في القلب أن ترى شباب وطنك تلك الفئة التي من شأنها أن تفعل الكثير لهذا الوطن يهاجرون مرغمين، باحثين عن بلد يفتح لهم ربما فرصة تجعلهم لا يندمون على اختيارهم لهذه الشعبة يوماً ما.
فإلى متى سيظل شباب هذا الوطن يغادرونه باحثين عن فرص أفضل، باحثين عن الكرامة وحقهم في الشغل عن طريق الكفاءة لا الوساطة؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.