في البداية، أنت لا تقرأ إحدى صفحات كتاب الفوائد لابن القيّم، ولا تتجول في المسافات الفارغة بين سطور الغزالي تتبين فيها سبيله لإحياء علوم الدين، أنت تقرأ لشاب في العشرينات من عُمره، لم يبلغ بعد من الحكمة مبلغاً ولا من العلم قسطاً يُجيزه لأن يتطرق لعلوم الشريعة، أو تبيان مقاصدها، لكنك تقرأ خواطر عابر سبيل لطالما أرهقته الخُطى وأرهقها، وكابدته الطريق وكابدها، ومجاهد لنفسه لطالما غالبته وغالبها، هي تأملات لا تصح أن توضع في مرتبة أعلى من كونها إفضاء بالحديث، ولا يصح إنزال كاتبها منزلة الوعاظ الفاهمين.
في حال اتفقت معي على هذه المقدمة، فلنتجه معاً بالسطور إلى حيث أردت أن نتجاذب أطراف الحديث.
من تكرر تعثره اعتاد النهوض، ومن كثُر زَلَلهُ أدرك خلله، ومن أدمن طرق البابِ يوشك أن يَلِجه، من هذا المنطلق أكتب إليك هذه التأملات، في هذه السطور، أحمل من المعاني ما أظن في غيابها موطن الداء، وأن منها يستنتَجُ الدواء، أراها حقائق تتألق في النفس تألق الشمس، إلا أن غشاوةً مما كسبت أيدينا تحجب عنّا ضياء معانيها.
– "ولكن بشيء وقر في قلبه.."
لـ"المزني"
إن الإنسان في نظري ليس شيئاً آخر غير ذلك الذي يعتقد، حتى إن الله لا يؤاخذ الرجل إذا أُكره على كلمة الكُفر، طالما اطمأن قلبه بالإيمان، وأول من يُنزِل في الدرك الأسفل من النار أولئك المجاهدون والعالمون والمنفقون إذا خالف هذا الفعل معتقدهم الأصيل في نفوسهم، وذلك لأن لا شيء آخر يحفظ ويشهد بحقيقة الإنسان غير ما يعتقد، وبذلك صار الاعتقاد وصحته هو أساس التفضيل، فقيل في أبي بكر إنه ما سبقهم بكثرة صلاة أو كثرة قيام، ولكن بشيء وقرَ في قلبه.
إن هذا الاعتقاد هو الحصن المنيع الذي حصّنه الله للإنسان، وأخفاه خلف حُجبٍ تعلوها، حُجب لا يقدر على كشفها أحد، وهي الأرض المقدسة التي لا يطأها بشر بغير إذن صاحبها، ولا تقدر أعتى الجيوش على هزيمتها أو إخضاعها، وإن أقصى ما يستطيعه العالم هو إجبارك على إخفاء معتقداتك، ولا يملك منك فيها أكثر من ذلك شيئاً.
إن كينونة الإنسان وهويته وحقيقته ومظاهر الحياة فيه ما كانت يوماً إلا بثّاً من المعتقد، لا يحرفها عنه إلا فعل فاعل ذاتياً -بشهوة أو شبهة- كان أو غير ذلك؛ لذلك لا تتجلى حقيقة الإنسان إلا إذا سُمح لمعتقداته أن تعبر عن ذاتها فعلاً وواقعاً.
ولا يكون ذلك إلا إذا امتلك حريته التامّة، تلك الحرية التي تنزع عنه الحُلة التي ألبسته إياها مفاهيم الآخرين وحجبت عنه الأفق بما يرونه هم من العالم، وتكسر هذه القيود التي أوثقته بها نفسه من الشهوات، تلك التي تذهب عقله فتحول بينه وبين ما يعتقد تارة وتفتنه عنه أخرى.
وتلبسه تلك الحريّة حُلته التي حاكها لنفسه، نسيجها ما يعتقد، مرصعة بما يرتضي من مفاهيم، وما يراه هو من العالم.
والمفارقة هنا أن هذه الحرية التامّة لا تتحقق إلا بالعبودية التامّة لله، فالمقصد أن يُرد الإنسان إلى فطرته منحياً عنها لوث الشبهات والشهوات، ولا يكون ذلك إلا بلزوم صاحب هذه الفطرة التي فطر الناس عليها.
– "والعبودية، معناها اللغوي: الخضوع والتذلل، أي: استسلام المرء وانقياده لأحد غيره انقياداً لا مقاومة معه ولا عدول عنه ولا عصيان له، حتى يستخدمه هو حسب ما يرضى وكيف ما يشاء".
لـ"أبي الأعلى المودودي"
أمّا العبودية في معناها هي الملازمة والخضوع التام، فيقول ابن القيم في معناها: "العبودية هي كمال الحُبِّ مع كمال الذُلِّ.."، فإذا تحقق هذا المعنى تحقق فيك أمر الله: "قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ".
فلا تجد بذلك في نفسك حرجاً من أمرٍ من أوامر الله، ولا يولِد قصور إدراكك غروراً وكبراً يقودك لمنازعة الله أمره، فتأخذ من الدين ما تدعي فهمه وتترك ما تدعي قصوره أو عدم ملاءمته، وهو في الحقيقة ليس شيئاً آخر غير جهلك بحكمته وقصور فهمك عن مراد الله منه، وهو بالأساس أمرٌ لو فتشت فيه لوجدته من مكونات الفطرة غير أنه تشوّه بداخلك.
ومن ذلك نفهم ما يقول صاحب الظِلال في مقومات التصور الإسلامي: "إن الإنسان يكون في أرفع مقاماته وفي خير حالاته حين يحقق مقام العبودية لله؛ إذ إنه في هذه الحالة يكون في أقوم حالات فطرته وأحسن حالات كماله وأصدق حالات وجوده..".
– "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاها"
(سورة الشمس)
كذلك يبدو أنه كما تتحقق الحريّة التامّة من المادية والحيوانية والخرافات، بالعبودية التامّة للوحي والانقياد له وحفظ الفطرة، أيضاً تتحقق لها العبودية التامّة إذا تحقق الانسلاخ الكامل عن هذا الوحي، وبذلك يصير الإنسان مسخاً منتكس الفطرة يرتكب من الأفعال ما ينافيها ويناقضها لأبعد ما يُتصور.
وما بين ذلك من نسبية هو موطن الصراع بين الفضيلة والسفور، والخير والشر، وهو منبع الصراع الأزلي بين الحق والباطل، فمتى طغى جانب الانحلال من أحدهما كنت بذلك محسوباً على الآخر.
من ذلك يتبين وجوب إدراك الإنسان أنه كان من كان، هو طرف في ذلك الصراع شاء أو أبى، وأنه لا مفر له من هذه الحتمية، ولا يسعه إلا أن يرى محل نفسه وفي أي حشد يقف، وأن يعي أن لا مسار له في هذه الحياة إلا سبيلين: أحدهما يصله بالحق، والآخر يصله بالباطل، وأنه حتماً سائر.
وأنه لا يجدر به سوى دوام جهاد النفس حتى يركنها إلى خيرها، وينسلخ بها عن شرها، ومداومة تزكيتها وتنقيتها من خبثها، وإدراكه أنه كما لا مفر له من الزلل، لا مفر له من النهوض بعده.
– "الحياة لا يمكن إلا أن تتأثر بالعقيدة، والعقيدة لا يمكن أن تعيش في معزل عن الحياة".
لسيد قطب
لذلك حرص كل أصحاب العلم الغزير والعقيدة الراسخة على ألا يقتصر سعيهم على تقويم عقيدة الفرد وتهذيب نفسه فقط، بل سعوا لإيجاد الواقع الذي يسمح للعالم أن يرى هذه العقيدة واقعاً، فحرصوا على تحرير الإنسان من كلتا العبوديتين، عبودية ذاته، وعبودية الآخرين.
وأثرُ ذلك يبدو واضحاً جلياً عند مطالعة سيَر أصحاب العقيدة الصلبة، والفطرة السليمة، تستطيع أن ترى مظاهره حين ترى الإمام أحمد وقد جرد من ثيابه لم يبق عليه إلا إزاره، وقد تركه المأمون يُضرب حتى غشي عليه، وتعاينه في قول شيخ الإسلام ابن تيمية بينما يرقد في سجنه حين قال: "ما يفعل أعدائي بي، إن قتلوني فقتلي شهادة، وإن سجنوني فسجني خلوة، وإن نفوني فنفيي سياحة، إن المحبوس من حُبس عن ربه، والأسير من أسره هواه".
وتستشعر معناه من قولة قُطب حين طُلب منه الاعتذار، فأجاب: "إن أصبع السبابة الذي يشهد بوحدانية الله في الصلاة، ليرفض أن يكتب حرفاً واحداً يُقر فيه حكم طاغية".
باختصار إنما الحياة معتقدات نعتنقها، ونسعى لتحقيقها، إنما الحياة عقيدة وجهاد.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.