لم تكن سوريا في التاريخ الحديث مجرّد ممرٍ وطريق عادي للحجاج والمغتربين، خصوصاً الجزائريين منهم، بل نقطة ارتكاز مهمة للمتابعة، تتضمن الراحة والأمان والتزوّد الثقافي والفكري من علماء الشام وثقافاتهم، والتواصل مع أبناء البلاد، بحكم ما عُرف عنهم من طيبة، إضافة إلى زيارات معالمها التاريخية، وفي مقدمتها الجامع الأموي الكبير.
من هذا المنطلق ولا غيره، اختار الأمير عبد القادر الجزائري دمشق ملجأ وموطناً له بعد نفيه، فصار فيها زعيماً، يُشار إليه بالبنان، وحظي بالتفاف السوريين، بمختلف فئاتهم وطوائفهم، الأمر الذي إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على خلفية النظرة السورية إلى الشعب الجزائري، وإلى دور الأمير عبد القادر في قيادة حركة التحرر ضد المستعمر الفرنسي، وإلى وقوف الشعب السوري مع أخيه الجزائري، في التحرر والتخلص من الاستعمار الفرنسي.
وإذا حاولنا أن نعدّد أسماء الأعلام الجزائريين الذين أدّوا أدواراً كبيرة في الحياة السوريّة، فإننا نصل إلى إحصاءات واسعة في مختلف الميادين، من علماء اللغة العربية وثقافتها والفقه الإسلامي الحنيف، أمثال عبد القادر المبارك، والشيخ طاهر الجزائري، ومحمد المبارك، إلى الجنرال عبد الرحمن خليفاوي، ومازن المبارك، والأستاذ الجامعي والفيلسوف أسعد عربي درقاوي، إلى الناشطة النسائية عادلة بيهم الجزائري، زوجة مختار عبد القادر الجزائري، وإلى المئات الآخرين من الضباط والفنانين وكبار التجار والأساتذة بمختلف الاختصاصات.
نافذة أخرى نلجها ليتّضِح لنا الترابط الوثيق والانسجام الرفيع بين الشعبين، هي في تأثير فكر العلامة الشيخ عبد الحميد بن باديس، فقد جاء الاهتمام بفكر ابن باديس في إطار نهضة الإصلاح التي تحمّلها دعاة متنورون في سوريا ومصر، فكان السوريّون منهم، عبد الرحمن الكواكبي، صاحب طبائع الاستبداد، والشيخ طاهر الجزائري، العضو المؤسس للمجمع العلمي العربي بدمشق، وعن تأثير فكر ابن باديس في الحياة السورية، يقول السياسي السوري أكرم الحوراني: "إن الثورة الجزائرية التي وقف الشعب السوري كله مؤيداً ومؤازراً، تستند إلى أيديولوجية فكرية وسياسية واجتماعية وروحية، ساهمت فيها وهيأت لها الحركات الوطنية والسياسية، ولا سيما جمعية العلماء، وعلى رأسها المصلح العربي والسياسي والاجتماعي، ابن باديس، التي تركت أثراً عميقاً في المجتمع الجزائري، وبلورت بجرأة مفاهيم الإسلام الثورية التي تنسجم مع روح العصر، فتركت آثاراً قد تكون أكثر عمقاً مما تركه الأفغاني والكواكبي ومحمد عبده ورشيد رضا، وتلامذتهم في المشرق العربي، لقد حوّلت جمعية العلماء تكايا وزوايا الجزائر إلى مدارس لتعليم اللغة العربية وترسيخ المفاهيم الوطنية والإسلامية".
وتشير الحقائق المعروفة كلّها، إلى أن ثورة المليون شهيد شكّلت منعطفاً تاريخياً بارزاً، ليس في حياة الشعب الجزائري فحسب، وإنما في حياة الأمة العربية كلّها، وكما أن هذه الثورة وحّدت قوى الشعب الجزائري الحيّة حولها، فإنها استطاعت أيضاً أن توحّد حولها التيارات السياسية المختلفة في الوطن العربي كله، فكانت سوريا في مقدمة الأقطار العربية التي أعلن شعبها تأييده المطلق للثورة الجزائرية، وتعلّقه بها، ودعمه واستعداده للتضحية في سبيل نجاحها، من منطلق النظرة إلى وحدة الأمة، وأهمية وحدة نضالها في مواجهة الاستعمار.
حرص الشعب السوري على تقديم الدعم إلى الثورة الجزائرية، على الرغم من إمكانياته الاقتصادية الضعيفة، ولا سيما في تلك المرحلة، فمن بين الفعاليات أنّه أقام أسبوعاً لدعم الثورة الجزائرية، قدّم فيه السوريون، بمختلف شرائحهم، تبرعات نقدية وعينية، ولا سيما من حلي النساء ومجوهراتهن، بما فيها خواتم الزواج، كما تطوّع عدد كبير من السوريين في جيش التحرير الوطني، وبخاصة الأطباء أمثال الدكتور نور الدين الأتاسي، ويوسف زعين، وإبراهيم ماخوس، وحبيب حداد، كما افتتحت جبهة التحرير الوطني مكاتب لها في دمشق، وفي غالبية المدن السورية، حيث أشرفت هذه المكاتب على الأنشطة الداعمة للثورة، وعلى الطلاب الجزائريين، كما عمّمت وزارة التربية والتعليم في سوريا على جميع المدارس، بإنشاد إجباري للنشيد الوطني الجزائري، إلى جانب النشيد الوطني السوري عند مطلع كل أسبوع ونهايته، وخصصت إذاعة دمشق ركناً إذاعياً يومياً، بإشراف مكتب جبهة التحرير الجزائرية بدمشق، يغطي أخبار الثورة وأنشطة مكاتب جبهة التحرير الوطني.
عند إعلان استقلال الجزائر من الاستعمار الفرنسي، استقبل الشعب السوري الخبر بفرحة كبيرة، فرحة تُعادل لو كان المُستقِلُ هي سوريا نفسها، ليعلن بعدها الأساتذة والمثقفون السوريون عن استعدادهم للتدريس في الجزائر، والمساهمة في حركة التعريب من مختلف الاختصاصات، وتم إيفاد عدد كبير منهم للهدف ذاته.
قبيل الاستقلال وفي عز الجرائم الفرنسية في البلاد، قامت الحكومة السورية بعقد صفقة بيع للقمح مع فرنسا إبّان احتلالها للجزائر، فثار الشعب السوري ضد هذه الحكومة حتى أسقطها في مظاهرة كبيرة رُفِع فيها العلم الجزائري لأول مرّة خارج الجزائر، يعيش السوريون اليوم ثورة عاشتها الجزائر فيما مضى، بحيث استبدلت بفرنسا نظام الأسد الإرهابي، وبقي تكالب المجتمع الدولي على الجزائريين أثناء ثورتهم ثابتاً، في حين تقوّت العلاقات التاريخية بين الشعبين الجزائري والسوري أكثر فأكثر، إلى حين تعكيرها بموقف أجزم أنّه لا يمثل من اسم الجزائر إلاّ الخاتم الذي نقش على وثائق الصفقات، والريق الذي خرج من الأفواه خلال التصريحات.
في انتظار استكمال الثورة السورية مسارها وتكلله بالنجاح، رغم المستجدات التي أطالت بلوغ أحلامنا إلى حقيقة، في انتظار استفاقة رسمية جزائرية، وانحياز شعبيّ للجزائريين، وفي انتظار فهم صحيح لبعض السوريين للعلاقة التاريخية بين البلدين، أتساءل يا جزائريون ويا سوريون:
من الأفضل.. الجنرال ديغول أم الجنرال غورو؟
ملاحظة: هذا المقال للرد على من يحاول خلق فتنة بين الشعبين الجزائري والسوري، والسؤال الاستنكاري التهكمي مفاده العدو المشترك للشعبين.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.