جلس يرتجف في أحد جوانب الغرفة وأخذ يجول بعينيه، لكنه لا يجد سوى الضياع الأسود الذي يلقي الخوف في قلوب الجميع، إنه الظلام الدامس.. يترقب الدقائق وهي تمر كالسنين.. ينتظر من ينقذه من رعبه.
بدأ ينادي على أسماء كل من يعرفهم، متمنياً النجاة ولكن ضآلة صوت صبي صغير لن تصل إليهم.. الباب يأبى أن يُفتح ولا مفر غيره للهروب.
أعطى الباب عدة ضربات من كتفه النحيلة، استنفد كل ما أوتي من قوة حتى أتى الفرج وانفتح الباب من تلقاء نفسه. ولكن ما لم يتوقعه كان ينتظره ضوء شديد أبيض انتشر في الأرجاء وحطم حصون عينيه الضعيفتين ليقرر ملازمة الظلام له..
"فقد الصبي نعمة لا تُقدر بثمن؛ ألا وهي البصر"، هذا كان ما قاله طبيب بنبرة هادئة لمريض له في العشرينات من عمره، وأكمل مضيفاً: "أنت حالتك مثل هذا الصبي الذي لا حول له ولا قوة فيما يحدث له". فالانغلاق الاجتماعي والحذر المفرط من الأسرة على أولادهم قد ينقلبان لسلاح يدمر حياة أولادهم ويفني شخصيتهم وسجيتهم الطيبة.
بعد أن ينضج الأطفال ويضطروا إلى الخروج للتعامل مع أطياف المجتمع المختلفة وينفتحوا على عالم كان بينهم وبينه ساتر منيع، يجدون هذا العالم غريباً كأنه طريق ضبابي لا يرون نهايته فيسلكون طريقاً من طريقين: الطريق الأول أن يكتشفوا بأنفسهم ويخوضوا التجارب أياً كانت أضرارها ويفعلوا أشياء بذلت الأسرة أقصى جهدها لتجنبهم إياها؛ وذلك لأنهم كانوا دائماً في عزلة، فلا يملكون الرؤية الصائبة لمعرفة الصواب من الخطأ، فتصيب الأسرة صدمة قوية عندما يكتشفون ما وصل إليه أبناؤهم من طريق مظلم يصعب رجوعهم منه ولن يقدروا على إعادتهم إلى الغرفة المعزولة مجدداً.
أما الطريق الثاني، فهو ليس بالحسن أيضاً فيستمر الطفل في عزلته التي اعتادها، محيطاً نفسه بجدران منيعة لا يسمح لأحد بعبورها، يتكلم قليلاً ولا يريد تكوين أي علاقة بالعالم الخارجي الغريب عليه تماماً. كلا الطريق يؤدي في نهاية الأمر إلى تدمير الذات البشرية، والعزلة المميتة، والتطرف الأخلاقي، واضطراب في الشخصية، والعمى الفكري وفقدان الثقة بأي شخص.
البعض يتساءل: أهذا يعني التسيب وترك الأطفال يفعلون ما يريدون؟
بالطبع لا، فالحرية المطلقة للأبناء ليست الحل وليست النهج الصحيح، فهذه الحرية تؤدي إلى طريق جدران العزلة نفسه. التربية الصحيحة للأبناء تكون بترك مساحة لهم للتصرف بحريتهم ووضع ثقتنا بهم مع مراقبتهم لإرشادهم إلى الطريق الصحيح وتجنيبهم الأخطاء التي تؤدي إلى إلحاق الضرر بهم، وهناك نهج واضح ولا يوجد أفضل منه لطريق مستقيم متزن، هذا النهج هو تعاليم ديننا التي نسيناها.
هذه التعاليم التي يجب أن تكون الأعمدة الرئيسية لبناء شخصية أبنائنا وإنارة الطريق لهم، قد تبدو هذه النقاط بسيطة للبعض، ولكنها نواة المجتمع؛ بل الأمة بأكملها، فنهضة الأمة من رقي فكر جيلها. فكيف سيكون حال أمة، جيلها منحرف أخلاقياً مضطرب نفسياً؟! أظن أن الإجابة ساطعة أمامنا.
الآن أنهى الدكتور كلامه وقلبه يدمع من حزن أخفاه عن مريضه ليبعث فيه أمل أنه يستطيع التغيير مهما كانت الظروف ومهما كانت الصعاب. لذا فلننشئ جيلاً قوي الشخصية، ناضجاً فكرياً، منضبطاً أخلاقياً، تعاليم دينه هي بذرة تكوينه الأساسية.. وكفانا عبثاً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.