"اللهم إنا نستودعك ديننا وخواتيم أعمالنا وتوفنا وأنت راضٍ عنا"، كانت آخر جملة كتبها صديقي على حسابه بفيسبوك، أعقبها برسالة خاصة صوتية أرسلها لي على تطبيق تليغرام، قال فيها: "ربما هذه آخر رسالة بيننا، حاول أن تتواصل يا عبد الله مع وسائل الإعلام والمسؤولين؛ كي يخرجونا من هنا.. سينقلوننا إلى فرع فلسطين.. ربما سيقتلوننا".
كان ذلك قبل أن يجرّه السجان السوري ورفيقه بسجن المخابرات العسكرية في دمشق إلى فرع فلسطين، أحد أسوأ الفروع الأمنية سمعة ومن أكثر الفروع التي يخشاها الناس.
في الفرع الأمني 3 طوابق على الأقل تحت الأرض يُستجوَب فيها المعتقلون ويتعرضون للتعذيب، وفق رواية منظمة هيومان رايتس ووتش.
آلمني الموقف ولم أتمالك نفسي من شدة ما حدث، خصوصاً عندما قرأت ما كتبته هيومان رايتس ووتش عن ذلك السجن سيئ السمعة في تقرير عنونته بـ"أقبية التعذيب"، وبعدما شاهدت ما بثته قناة الجزيرة في برنامج "للقصة بقية" عنه.
بريئان في سجون الأسد:
الأشد من ذلك، أن صديقي ورفيقه بريئان وصدر في حقهما حكم بالعفو منذ عام 2013 بعد أن ذهبا إلى سوريا، منذ 5 سنوات، لنقل مساعدات للنازحين السوريين كأي جمعية خيرية مدنية ليس لها أي توجه فكري، إبان اندلاع الثورة السورية.
ولكن للأسف، وقعا في قبضة نظام بشار الأسد وسُجنا في معتقلات تحت الأرض بسجن المخابرات العسكرية في دمشق. وبعد 3 أعوام من السجن والتحقيق تحت التعذيب، تبين للسلطات السورية أنهما غير مذنبيْن، إلا أنها وجهت لهما تهمة واحدة؛ وهي تجاوز الحدود السورية وحُكم لهما بالبراءة من كل التهم، إضافة إلى أنهما استكملا مدة الحكم عليهما بسبب تجاوز الحدود.
الصدمة:
ولكن الصدمة أن البراءة كانت من دون إفراج، علاوة على استمرار التعذيب إلى عام 2017 وهو ما عزاه سجانو النظام السوري إلى أن "دولتكم لم تطالب بكم.. إنكم أبرياء، ولكن لن نسلمكم إلا لجهات رسمية في بلادكم، تطالب بكم فنسلّمكم"، وفق ما قاله لي صديقي.
تونسيون ومصريون:
صديقي يقول إنهم و43 سجيناً تونسياً وآخرين مصريين جاءوا جميعهم بمساعدات للنازحين وجميعهم صدر في حقهم حكم بالبراءة، إلا أن دولهم لم تطالب بهم جميعاً -كبلادي ليبيا تماماً- وهذا ما قاله المعتقلون التونسيون في فيديو مصور من داخل المعتقل بثته قناة "العربي".
دون جدوى:
بعد الرسائل المتكررة والاتصال بيني وبينه على تطبيق التليغرام رفعت خلالها القضية إلى منظمات حقوقية؛ بل وإلى مسؤولين في الحكومات الليبية وساسة وقادة أحزاب… أحدهم يرد بتعالٍ وآخر يقول لك: اكتب طلباً مذيَّلاً بتوقيع أشخاص عدة، وآخر يرى رسالتك على موقع فيسبوك ولا يعيرها أي اهتمام ويعدها تطفُّلاً على الخاص!
وبعد مراسلات مع عدد من الحقوقيين والمهتمين بأمر الفتية ولإعلاميين ووسائل إعلام، وقليلاً ما وجدت من أعارهم أي اهتمام، ولم تستقبل القضية سوى قناة واحدة إلا أن المعلومات الوحيدة المتوافرة لا تنجز حلقة في برنامج؛ لأن المصدر الوحيد انقطع الاتصال به بعد نقلهم إلى فرع فلسطين حيث كان أحد المعتقلين، إضافة إلى أن الجهات الرسمية لم تعِر القضية أي اهتمام.
حصيلة الحديث أن جميع تلك المحاولات ذهبت هباء منثوراً… كل النداءات باءت بالفشل، فصناديق رسائل الأصدقاء تظهر تمت المشاهدة دون أي تفاعل ومسؤولو الدولة بحكوماتها وأحزابها وعسكرها ونشطائها وإعلامييها لم تستجب للنداءات التي أطلقناها.
معاناة المعتقلين:
جلست بعد كل تلك المحاولات أتأمل حديث الصديق المعتقل الذي يتكلم عن برد الشتاء في سوريا والبعد عن الأهل 5 أعوام دون ذنب اقترفه سوى إرسال بعض المساعدات إلى نازحي سوريا، جلست أتأمل روايات المعتقلين في ذلك السجن التي دونتها منظمة هيومان رايتس ووتش..
قرأت عن ذلك المعتقل الذي يقول: "أجبروني على خلع ثيابي ثم بدأوا في عصر أصابعي بالكماشة. غرسوا الدبابيس في أصابعي وصدري وأذنيّ. كان مسموحاً لي بنزعها فقط إذا تكلمت. كانت المسامير في الأذنين هي الأكثر إيلاماً. استخدموا سلكين موصولين ببطارية سيارة لصعقي كهربياً. واستخدموا آلة الصعق الكهربائي على أعضائي التناسلية مرتين. ظننت أنني لن أرى عائلتي ثانية. عذبوني على هذا النحو 3 مرات وعلى مدار 3 أيام".
قرأت في التقرير عن ضابط المخابرات المنشق عن بشار الأسد الذي تحدث:
"أخفُّ أشكال التعذيب، هو ضرب الناس بالعصي على أذرعهم وسيقانهم وحرمانهم من الطعام والشراب. بعد ذلك، يعلقون المعتقل من السقف من يديه ساعات أو أياماً في بعض الأحيان، رأيت هذا وأنا أكلم المحققين. كانوا يستخدمون آلات الصعق الكهربائي وماكينة للصدمات الكهربائية، وهي عبارة عن محول للتيار الكهربي. إنها ماكينة صغيرة بسلكين بهما مشابك يشبكونها بحلمتي الثديين ومقبض ينظم التيار.
علاوة على هذا، كانوا يضعون الناس في النعوش ويهددون بقتلهم ويغلقون النعش. كان الناس يلبسون ثيابهم الداخلية. كانوا يسكبون الماء الساخن على الناس ثم يجلدونهم بالسياط. رأيت المثاقب هناك أيضاً، إلا أنني لم أرها تُستخدم قط. رأيتهم يستخدمون حركات فنون القتال، مثل كسر الضلوع بركلة من الركبة. كانوا يضعون الدبابيس تحت قدميك ثم يضربونك حتى تضطر إلى وطئها بقدميك. سمعتهم أيضاً يهددون بقطع الأعضاء الذكرية للمعتقلين".
ذُهول:
ذُهلت من عدم اهتمامنا بهؤلاء الفتية الأبرياء.. ذهلت من سلطات بلادي في الشرق والغرب، ذهلت من سلطات تونس ومصر، التي لم تطالب بأبنائها.. ذُهلت مما وصلنا إليه وأي مصير ننتظر.. أذهلني صبر هؤلاء الفتية في معتقلات الأسد ويؤلمني وجع أهلهم وفقدانهم.
سيدي المسؤول:
أتعجب ممن لم تحرك العاطفة ذرة في قلبه ونسي هؤلاء الفتية: سيدي المسؤول، يا من طلبت رسالة مكتوبة مذيلة بتوقيع وأسماء؛ لتوضيح قضية الفتية المعتقلين من أجل إيجاد حل لهم.. الطلب على مكتبك منذ أكثر من شهر، وفي نهايته كتبت لك قول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"… ولكنك لم تردَّ وصديقي المعتقل لم يردَّ منذ منتصف يناير/كانون الثاني؛ لأنه ربما قُتل تحت التعذيب حين كنت تبحث علاقاتك الثنائية في إحدى الدول!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.