لا يكفي مجرد المطالبة برفع المظالم المتعلقة بالحقوق الدينية والمدنية والسياسية للأقليات، أو الدعوة إلى الشروع في حوار مجتمعي موسع حول قيم المواطنة والعيش المشترك، على الرغم من أهمية هذا وذاك في تخطي محدودية المنطق الأمني التجريمي، فمسببات وتداعيات أحداث كالتوترات الطائفية المتكررة في مصر أعقد وأخطر من ذلك بكثير.
وقناعتي أن نقطة البدء إنما تتمثل في إدراك محورية عاملين رئيسيين لفهم بزوغ الولاءات الدينية والعرقية وانفجاراتها الطائفية المتتالية.
يرتبط العامل الأول بجوهر علاقة السلطة الحاكمة بمواطنيها، قضت معظم النظم العربية منذ خمسينات القرن الماضي، مع تفاوت درجات قمعها، على دور واستقلالية المؤسسات السياسية والمدنية غير الحكومية.
فقدت الأحزاب والحركات السياسية دورها كأدوات للتعبير المنظم عن قناعات ومصالح جماعات المواطنين وكإطارات لبلورة هويات حديثة تنتظم في فضاء رابطة المواطنة.
تلاشت أيضاً، إن في ظل الإلغاء أو السيطرة السلطوية، وظيفة التنظيمات المدنية من نقابات عمالية واتحادات اقتصادية – تجارية ومنتديات فكرية في تمكين المواطنين من تخطي حواجز الولاءات الأولية العازلة بينهم وترسيخ المضامين القيمية والعملية لرابطة المواطنة في خبرتهم الحياتية.
الحال إذاً أن كثيراً من النظم العربية أعادت هيكلة بِنَى مجتمعاتها مبلورة لما يمكن تسميته نموذج المجتمع المفتوح، ليس استناداً إلى تعدديته أو ديمقراطيته، وإنما تأسيساً على اختفاء المساحة السياسية والمدنية الوسيطة الفاصلة بين الحكومات والمواطنين واستطاعة الحكومات ممارسة القمع دون قيود.
لم تترك هذه السلطوية العربية لمواطنيها سوى دوائر الولاءات الأولية، دينية وعرقية وغيرها، للاحتماء بها كملاذ أخير فتعلقوا بها وأعلوا تدريجياً من شأنها في مقابل رابطة مواطنة اختصرتها في سيطرة وقمع وإرهاب.
أما العامل الثاني في تفسير الانفجارات الطائفية في العديد من ديار العرب فيتعلق بطرق الاشتغال بالسياسة.
فقد رتب اختفاء التنظيمات السياسية الحداثية والمدنية أو ضعفها البيّن تمكين الولاءات الأولية من غزو، بل والاستئثار بالمساحات المحدودة المتاحة للاشتباك مع الشأن العام.
لا ترتكز شعبية القوى الدينية والعرقية والجهوية بالأساس إلى برامجها السياسية أو رؤاها حول إدارة شؤون مجتمعاتها، إنما تعود في المقام الأول إلى رأسمالها الاجتماعي، المتمثل في ثقة المواطنين بقدرتها على حمايتهم إزاء قمع النظم وتقديم الخدمات لهم.
من جهة يترجم مثل هذا الرأسمال الاجتماعي في لحظات الحراك ثقلاً سياسياً واضحاً ويستحيل آليةً محورية للمشاركة في الشأن العام، ويرغم من جهة أخرى من أُقصي من جماعات وأفراد اعتماد ذات المنحى للحصول على درجة من التمثيل المجتمعي الفعال.
بعبارة بديلة، يصير من الطبيعي والمشروع إزاء هيمنة الديني على الفضاء العام وانغلاق الفضاء السياسي الحداثي أن يلجأ العديد من الأقباط المصريين على سبيل المثال إلى مؤسساتهم الدينية كمداخل لتأطير حركتهم في المجال العام والدفاع عن مصالحهم.
وواقع الأمر أن هذه التطورات تعمق من الانفصال الحياتي بين أبناء المجتمع الواحد على أساس الانتماء الديني أو العرقي أو كليهما معاً وتفرغ في التحليل الأخير رابطة المواطنة من المضمون. ليس من الغريب إذاً أن تستدعى بانتظام المشاعر الطائفية وآليات الفعل الإقصائي.
وأن ترتب انفجارات طائفية قبيحة يقابلها عموم المجتمع المعني بادعاء الصدمة والخوف على الوحدة الوطنية، فلحظة الأزمة هي بحكم التعريف لحظة كاشفة والطائفية أضحت بلا ريب واحداً من المكونات الرئيسية المشكلة للحقيقة المجتمعية في العديد من الحالات العربية.
إذا ما اعترفنا بأن الطائفية ليست ظاهرة استثنائية، وأن صعود الولاءات الأولية لن ينحسر سريعاً، يصبح لزاماً علينا البحث عن مداخل واقعية تمكن على المدى القصير من إنقاذ ما تبقى من رابطة المواطنة، وعلى المدى الطويل من إعادة تأسيس فضائها الجامع على نحو ينأى بديار العرب التي لم تسقط بها الدولة الوطنية عن مخاطر التفتت والانفصال.
تتمثل القضية المفصلية هنا في إنتاج إصلاح مجتمعي وتحول ديمقراطي شاملين لهما أن يرفعا المظالم عن الأقليات وأن يطورا آليات الاحتكام إلى القانون والحوار في إدارة العلاقة بين الأغلبيات والأقليات، يلي ذلك حتمية مواجهة التداعيات الراهنة للطائفية باكتشاف مساحات المشترك الفعلية بين المواطنين على نحو يتجاوز الولاءات الأولية، وتثبيت تلك المساحات تدريجياً في المؤسسات والممارسات عامة.
أما الاستمرار في إنتاج البكائيات الصحفية المتحسرة على تصدع الوحدة الوطنية وما آلت إليه ثقافة مجتمعاتنا العربية من انحطاط وتعصب بعد ماضٍ راقٍ متسامح، أو الاكتفاء بالمطالبة بمحاسبة المتورطين في العنف الطائفي أو الارتكان كما في مصر إلى فولكلور "الزيارات الرسمية" بين ممثلي المؤسسات الدينية الإسلامية والمسيحية، فلن يذهب بنا بعيداً.
* نقلاً عن القدس العربي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.